قراءة أولية لنذر نظام دولي يتفكك .. و لمشهد وطني يتعفن. (1)

منذ انهيار منظومة الاتحاد السوفيتي الشيوعية و انفراط التوازن الدولي بتفرد الولايات المتحدة الأمريكيه بالقرارات الكبرى في العالم و تربعها على جمجمته، بكل ما يعنيه ذلك من جبروت و استمتاع بالهيمنة، في العشرية الأخيرة من القرن الماضي و إلى اليوم و ما تبع ذلك كنتائج تدميرية لجوهر العلاقات الإنسانية و قيمها العميقة المشتركة بين شعوبها و دولها، دخل العالم في حقبة اضطراب دائم و بات يسير على حبل مشدود بين الاستنقاع في واقع الاستسلام للمشيئة الأمريكية و بين السعي للخروج الآمن من قبضتها المميتة. و بطبيعة الحال، كانت الصين ، لأسباب تاريخية و لحقائق واقعية ماثلة هي المرشحة موضوعيا لقيادة العالم في مقاومة النزعة الامبراطورية الأمريكية العدوانية المتسلطة على الدول و الشعوب. تقدمت الصين ، و منذ عقود، متسلحة بسلاح الصمت السيتراتيجي المرعب، نحو فكي التمساح على جبهة التنافس في مجال التجارة الدولية و تكنلوجيا الاتصال و الاقتصاد و الصناعة و التسلح الرقمي ؛ وظلت تقضم تدريجيا من قوة التمساح و هو لاه عنها في خوض حروبه العدوانية مشارق الأرض و مغاربها ، لا يأمن مكره حليف و لا يأمل منه ضعيف رحمة. هكذا، إذن، فحت الصين ، على طريقة الصينيين، فرصة تاريخية لإفلات البشرية من الخناق الأمريكي ؛ و لن يكون متاحا في أتون هذا الصراع التحرري استعادة مبدأ عدم الانحياز الذي كان موقفاإيجابيا في ظل الصراع بين القطبين السوفيتي و الامبرياليات الغربية.
و الحالة هذه، فأين سيكون مركز الثقل في الصراع من العالم ?
لا يمكن ،إلى الآن، إعطاء إجابة حاسمة بهذا الخصوص ، و لكن لم يعد سرا و لا من التحليل أن الولايات الأمريكية بدأت عمليا ، و بما يشبه هستيريا المرعوب من كابوس نوم، اتخاذ خطوات واسعة باتجاه آسيا سعيا، و هذا علني، لتطويق التنين الزاحف بحزام الدول المجاورة له… و لكن ما ذا لو لم تفلح أمريكا في هذا التكتيك بتخطي الصين متاريس أمريكا و عوارضها التي تتقن تشبيكها و بناءها بمهارة فائقة؛ و من تلك العوارض إثارة القوى الظلامية المحسوبة على الإسلام بشعاراتها التي وظفتها أمريكا و ابريطانيا ضد الاتحاد السوفيتي في أفغانستان تحت عنوان مقاومة التمدد الشيوعي ، و استخدمتها في تحطيم النظم القومية العربية بشعار اسقاط الاستبداد و استخدمتها ثانيا في تخريب مسار الثورات العربية ضد ذلك الاستبداد ، و من تلك المتاريس نظام الملالي في إيران و نظام أوردوغان في تركيا، اللذين لا يعدوان أكثر سلوقي احتياط حين يجد الجد و تستدعي الحاجة الأمريكية تفعيلهما في هذا الصراع؛ لأنهما قوتان إقليميتان تتناسجان مع التنظيمات الظلامية الإسلاموية و الإرهاب و كلاهما صنيعة غربية خالصة. إنه لا يمكن فهم التحركات الأمريكية اليوم ، بما فيها انسحابها من أفغانستان و معاهدة أوكس و تحرك مستشار الأمن القومي الآمريكي نحو موريتانيا ضمن استشراف لمواقف دول القارة ، خارج إطار التكيف مع المستجدات الدولية و التفرغ لوقف تحدي صعود الصين كمنافس جدي ، مع اليقين أن أمريكا ما تزال تتمتع بمركز الصدارة في القوى الكبرى ،دون أن نبخس و نستهين بالقدرة و السرعة المذهلة التي تطوي
بها الصين مسافة التفوق الأمريكي عليها. و هذا ما تدركه أمريكا على وجه اليقين قبل غيرها و يرعبها هي و حلفاؤها.
قراءة أولية لنذر نظام دولي يتفكك .. و لمشهد وطني يتعفن. (2)
فأين سيكون مسرح المواجهة الفعلية بين هذين العملاقين مع مكونات محوريهما ?
إن من المعطيات الوجيهة ما يؤكد على أن كلا من الصين و أمريكا و حلفاءما سيسعون جميعا لإبعاد ثقل الصراع عن الحوزات الإقليمية لكل من هذه الدول و عن مقترباتها الجغرافية و الجيوستراتيجية ما كان ذلك في الممكن. و بناء على ذلك، فليس يوجد مكان أنسب لخوض الصراع ، في ما إذا فشلت أمريكا في لجم الصين بنطاقها الإقليمي، من القارة الإفريقية المهيضة و المستباحة منذ قرون لأكثر من اعتبار ، و منها دون حصر : عذرية هذه القارة و غناها بالثروات الباطنية المعدنية و المائية الهائلة ، و هجرة شبابها عنها جراء الاستبداد و الفقر و البطالة المتولدين عنه و هشاشة شعوبها و استنزاف مناعتها بالصراعات الأهلية و تفشي الأمية بينها… و تسلط أنظمة دكتاتورية غير وطنية ضعيفة و عميلة، في معظمها ؛ فضلا عن موقع القارة الرابط بين قارات العالم الأخرى. كل هذه العوامل، مع غيرها، تشكل الأرضية النظرية و العملية التي تؤهل إفريقيا لأن تكون ملعب التباري بين أمريكا و الصين حين يصل الصراع التجاري و الاقتصادي أشده. فما ذا هيأت ، أو تهيئ، الأنظمة الإفريقية لشعوبها و دولها للنجاة من الزوال، في أتون هذا الصراع، كنتيجة طبيعية و حتمية تنتظر كل دولة إفريقية يكون نظامها السياسي فارغ الوفاض و خلي البال عما يجري في العالم من تفاعل و تصاعد توتر يستهدفان تبديل مراكز ثقل القوة في العالم و ما سيتولد عن ذلك من تغير في العلاقات الدولية و مواقع النفوذ و خرائط الكيانات الوطنية و التركيبات الديموغرافية فيها ؛ كأن تختفي دول و تنشأ أخرى من حطام الدول المختفية، و من تغير الخرائط والحدود… كما يؤكد التاريخ البشري ذلك عقب كل صراعي استيراتيجي عالمي كبير…
قراءة أولية لنذر نظام دولي يتفكك .. و لمشهد وطني يتعفن. (3)
إلى اللحظة الراهنة، ليس بمقدور المحللين أن يكشفوا أبعاد ودرجة و نتائج الصراع الذي بدأت بوادره و نذره في الأفق المنظور ؛ و لكن المحللين يجمعون، كثير منهم، على أن تطوراته تسير بسرعة مناسبة لسرعة التطورات التكنلوجية و السيبرنطقية المذهلة بين المتنافسين الكبار ؛ الأمر الذي يجعل النتائج المتوقعة ، في هذا الصراع على ريادة العالم، تتجاوز مقاييس التقويم و تعلو على كل سرعة للمتابعة بالنسبة للدول المتقدمة ، فما بالكم بأنظمة دول افريقية ضعيفة و فقيرة و أمية و متشظية؛ و كل شيء في عالم حكامها سهر و نساء و بطون و شاي و نوم… فهل ترون هؤلاء يطيقون التفكير في ما يجري في العالم على نحو ما يفسد عليهم راحة البال و خلو الذهن ?!
في فن الحرب، و الموضوع عن الصراع، فإن كسب أي حرب ، ردا لعدوان أو غزوا لمكان، لا بد فيه ، على نحو ملزم، من شروط ، أبرزها :

  • إعداد تصور واضح عن مسرح المعارك ؛
  • دراسة برامج عن قدرات العدو و توقع مختلف احتياجاته للحرب و توفير متطلبات و وسائل المعركة ؛ و الأهم من كل ذلك وجود قائد متمتع بلوحة استيراتيجية و تكتيكات و مناورات ، و متمتع بالقرب من المقاتلين لمتابعة قدراتهم و تنفيذهم للخطط في مسارح العمليات و مجالات المناورات… و الإطلاع بنفسه على انخراطهم في روح التمسك بالنصر. فالقائد لا بد فيه من درجة من القوة تجعل كل من في إمرته لا يخجلون من طاعته و لا يقدرون على معصيته. و الحقيقة أن هذه الشروط آكد لرئيس الدولة الذي هو القائد العام الأعلى لجميع معارك الدولة في مجالات التنمية و العسكرية…
    و حتى لا نضيع في التعميم ، فأين النظام السياسي الوطني مما يعتمل في العالم من حوله و من انعكاسات الأحداث الدولية المتلاحقة على استقرار الدول ، و على مستقبل بلدنا ، حتى لا نقول على و جوده? و هل قادتنا على علم بما يجري من تحولات و يستشعرون بمسؤولية مناسبة خطورة تداعياتها و ما قد يتولد عنها من مخاطر ? إذا كان يستحيل، بمنطق الأشياء البسيط و من منظور العقل و انعكاس الغريزة، أن يزداد قادتنا تغافلا و خلو بال مع تنامي و اكتمال الخطر و قربه، و لكن ما ذا حضّروا من شروط لكسب معركة البقاء و النجاة حيال هذا الصراع ?
    إنه بالنظر لآخر مقابلة لرئيس الجمهورية ، فإنه ظهر مسترخيا و متأخرا عن درجة الحساسية التي تبديها دول العالم إزاء صراع الصين و أمريكا، بدليل تشبثه و تعلقه بقوة ” برخان ” و روحها ؛ و هي التي بحكم الواقع باتت من التاريخ ؛ أي أنه ما زال يراهن على الفرس الفرنسي الخاسر في معالجة تفجر أوضاع منطقة الساحل ؛ دون أن يلمح للمتغيرات الدولية من حولنا ، و منها التراجع البين للدور الفرنسي في إفريقيا و في العالم، و لا لفشل الحلول الأمنية التي بان عجزها في كل مكان من العالم. كما لا يظهر تحسسه مما يجري من توتر شديد الخطورة على بلدنا بين الجزائر و المغرب . إن تراجع فرنسا في إفريقيا و في العالم و خلفية الاحتقان المفاجئ على حدودنا الشمالية برهان على أن ثمة أحداثا استيراتيجية كبرى يجري التحضير لها، و ليس الأمر قرصة بعوضة يكفي حكها بالجلد. لقد بدا من ذلك أن على الرئيس أن يتصرف على نحو مغاير لما أصبح الموريتانيون يتندرون به ؛ و يلزمه أن يختار خارطة طريق جديدة للفعل و بأسرع ما يكون ؛ و يدرك أن التكيف السلبي المحض إزاء تعقد أوضاع البلاد و تعقيدات العالم من حولها ليس خيارا سليما ؛ إذ من المستحيل دوام حال نظام ينقصه المعنى في التاريخ و يفتقر للاتجاه نحو المستقبل، مكتفيا بالاطمئنان بالسكون في ذمة الواقع المتعفن. فالضبابية – التي تميز هوية نظامنا، و قبوله بتفرق ” دم” المسؤولية عن تدبير و تسيير الشأن العام بين حفنة من اللامسؤولين الذين يعبثون بمصير الشعب الموريتاني ، لا ناهي و لا منتهي ، لا تصلح نهجا. لقد أصبح الموريتانيون بفعل هذه الضبابية يتحدثون عن ” السلطة المجهولة ” في غياب السلطة الواضحة ، و باتوا يتلمسون وجودها في هذا الوزير … أو ذاك المدير !
    لقد ازداد الوضع غموضا و كاد ينطبق الأفق باستدارة النظام نحو ما يطلق عليه الموريتانيون أبناء حي (ك) ilot K ، و هم ذراري وزراء حكومات و أسر النفوذ في ظل الرئيس الأسبق للبلد و كذا العناية الشديدة
    التي يوليها السيد الرئيس لجيل السياسيين في سبعينيات القرن الماضي ، الذين يتقدمون كأطراف فاعلة نحو التشاور / الحوار المرتقب، برغم انتهاء دورة حياتهم السياسية. و الغريب أن يفوت الرئيس أن ذراري جيل المختار ولد داداه، رحمه الله، لا يحملون بالضرورة جينات النموذج في آبائهم و لا يتحلون بفاعليتهم و لا درجة اهتمامهم بالشأن العام يومئذ ؛ فهم كالشيك بلا رصيد. و أما جيل السبعينيات من السياسيين فقد استهلكوا مع الزمن مشروعيتهم و شرعيتهم، و هم الآن أشبه بشجرة الحرث بعد حصاده ( صدرايت لمكّيل افلحريثا بعد قطع الحرث ) ؛ فهي شاخصة و خالية ممن كانوا يستظلون بها في آن… إن ذلك أكبر دليل على تلمس النظام للحيوية في غير مكانها و طلبا للرؤية في عيون الهرم الأعمى ! إن اختزال الدولة في مجموعتين تشتركان في بعد الماضي ليكرس صورة التقوقع و لا يعطي بشارة عن إرادة سياسية للتغيير ؛ بل ينزع القناع عن ” الإصلاح ” المزعوم بالهروب من المسؤولية و رميها في أيدي من لا يصلحون للقدوة في التسيير ، و لا يمثلون مصدرا للأمان و لا الانتماء. إن أخطر ما نواجهه اليوم هو ” الطيبة” المفرطة لرئيس الجمهورية مع عنايته الفائقة بهؤلاء و أولئك؛ و هم أصل الداء و العجز و القلق الذي يكتنف و يربك جميع الوطنيين الذين يستشعرون جملة المخاطر المحدقة الخارجية منها و الداخلية على البلد ؛ و في مقدمة هؤلاء القوميون العرب، و البعثيون في الطليعة، الذين ضحوا خلال الأحكام الاستثنائية بأنفسهم ، و قبل ذلك، في سبيل استرجاع الهوية الثقافية و الحضارية للموريتايين، التي كادت تضيع في تضاعيف المشروع الكولونيالي الفرنسي … إن من حق هؤلاء أن يعبروا عن خشيتهم من استغلال التشاور للعودة بالبلد إلى رأي و رؤية المحافظين على الوجه الفرنسي في موريتانيا عبر تأبيد لغتها و ورثة رموز عهدها في الحياة العامة للموريتانيين. لقد أجمعت الغالبية العظمى من القوميين على دعم الرئيس الحالي عند ترشحه أملا في التقدم بالمشروع الوطني ، و منه الاستقلال اللغوي، نحو الأمام و القطيعة مع هيمنة فرنسا على قرارنا الوطني عبر وكلائها ؛ و تخشى القوى الوطنية من تراجع الرئيس عن مضمون خطاب الترشح ، الذي يشكل حتى الساعة أفضل منجز أنجزه الرئيس و أقوى لحظة في زمنه. فلقد كان ذلك الترشح للرئاسيات آخر فرصة أتاحتها بطانة السوء، المتحلقة حول الرئيس، في التفكير مستقلا في نفسه و في مصير الموريتانيين ، الذين انتخبوه و تركهم تحاصرهم المعاناة الصامتة و العجز و القلق. إنه مع تفاعل تعقدات الأوضاع اقتصاديا و “التوفيق” المصاحب للرئيس في اختيار الرجال و النساء الأكثر فسادا و تفاهة و قلة أهلية لحل أزمات الاقتصاد و معاناة المواطنين ، فإن أحداث اركيز ستتكرر في عموم البلاد بلا شك ، و إن فضحية معرض دبي المدوية ستتكرر هي الأخرى مع الأوجه التي يختارها السيد الرئيس لتمثيل صورة البلاد في المحافل الدولية، لأن الرداءة لا يتولد عنها إلا رداءة أكبر منها و أوسع نطاقا. و إذا أضفنا إلى مشاكلنا ما قد يترتب من عدم استقرار في العالم عن تصاعد الصراع الأمريكي – الصيني، فإن الأمر لم يعد فيه متسع ، فإما يتخلص الرئيس من بطانته و خياراته غير الموفقة للمسؤولين، و إما ستدمر البطانة الرئيس و تدمر معه البلد ،كما دمرت قبله سلفه و أسلاف سلفه …
    مكتب الثقافة و الإعلام لحزب البعث العربي الاشتراكي – قطر موريتانيا – بتاريخ 21-10-2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *