أين العرب من المتغيرات الدولية الجارية..؟

ليس من الصدفة أن تكون أمريكا استبقت التطورات الدولية الدراماتيكية، التي تجري الآن في المسرح الأوروبي، فغزت العراق و احتلته و أسقطت نظامه الوطني الذي كان يحمل مشروعا قوميا متكاملا ، تمهيدا لدفع الوطن العربي برمته ، من بعد، في فوضى عارمة. فإسقاط نظام حزب البعث في العراق هدف للقضاء على نظام يمتلك رؤية قومية صحيحة مع قدرة متميزة على استشراف التطورات العالمية و اتجاهاتها و التهيؤ لاستفادة العرب ، كأمة، من التناقضات الناتجة عن تصادم القوى الكبرى على مختلف المسارح. فكان احتلال العراق لاحتثاث البعث كنهج ، و كان احتلال العراق لتصفية الكفايات العلمية و الأكاديمية في ذلك البلد العربي للحيلولة دون استفادة المشروع القومي من التغيرات الدولية التي تلوح في سماء العالم، بعدما خضع للمشيئة الأمريكية عقب انهيار خائط برلين المنذر بتفكك القطب الشيوعي.
حالا، يتجه العالم نحو تشكل نظام دولي جديد بدأ بالمواجهة في أوكرانيا، و لا يدري أحد أين ينتهي، و لا ما ذا ستكون مآلاته. غير أن الصراع بدأ، و لن يتسع المجال العالمي للحياد فيه. فالقوى الغربية بالمعنى السياسي و الإديولوجي – و ما تخلق في أكناف مخابراتها من تنظيمات إرهابية، تابعة للإسلام السياسي ، التي تشعبت عناوينها عن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين- كانت و ستظل تشكل قطبا في مواجهة بوادر تشكل قطب ناشئ يضم روسيا و الصين و قد تنضم إليهما بعض الكيانات العربية و الإفريقية و الدول الآسيوية، و بعض دول آمريكا اللاتينية و المكسيك. إذن، العالم يرقب تشكل نظام دولي جديد بعدما كان البعض لا يصدقه و بعض آخر ينظر إليه كاحتمال، مع أن البعثيين كانوا سباقين ، منذ وقت، لطرح هذا الموضوع و نبهوا لمخاطره و دعوا للتهيؤ لها، لافتين انتباه النظام الموريتاني إلى أن الارتباط بفرنسا و مجموعة الساحل ، بعد اليوم، هو رهان خاسر، في ضوء ما يعتمل من تغيرات دولية خافضة لقوى سابقة و رافعة لقوى جديدة. إن تغير نظام الهيمنة الأمريكي و تبدل موازين القوى الدولية يصب في مصلحة من اكتووا بالافتراس الأمريكي، في مقدمتهم العرب. فهل يغتنم العرب هذه النجدة السماوية؟
إن أسمى ما يمكن للعرب أن يقوموا به هو الوعي بأن وحدتهم ضرورة تاريخية، و اهتبال هذه الفرصة التاريخية للتكاتف لتأييد اتجاه تغيير النظام الدولي القائم. إن على العرب أن يدركوا أن التداعيات الخطيرة ، في المديين القريب و البعيد، لا قبل لأي دولة قطرية بمواجهتها بمفردها. فالكيانات القطرية أثبت التاريخ أنه لا مستقبل لها؛ فهي زائلة؛ و ليس أمام العرب للبقاء إلا المسارعة في الوحدة بين أقطارهم ، على أي نحو. و لكنه في النهاية لا مناص من الوحدة العربية، و إلا فالمصير هو الابتلاع من إحدى التكتلات العظمى. و في ما يتعلق بالمخاطر الفورية لهذه المواجهة الدولية، فإنه يتوجب، بصورة ملحة، على كل قطر عربي أن يستعد لمواجهة ظروف أقسى من الظروف التي نتجت عن صدام الحرب العالمية الثانية. و بالنسبة للموريتانيين، فإن الأحياء ممن عاشوا مآسي تلك الحرب يعرفون أن سنواتها أطلق عليها ” سنوات العري.. و سنوات المجاعة”. فكان الرجال ، في أحسن الأحوال يلبسون الجلود، وكانت نساء الحي ، على الأقل في بعض مناطق البلاد، تجتمعن تحت جنح الظلام قبل طلوع الفجر عاريات في خيمة أسدلت عليهن أطنابها ، فيمضين يومهن داخلها ، تجنبا للرجال، حتى يرخي الليل سدوله، فتعدن لأسرهن، ثم يتكرر المشهد المأساوي! أما المجاعة و الأوبئة فقد انتشرت بشكل يفوق كل وصف. إن على الموريتانيين الاستعداد لظروف دولية أقسى تصادفت مع نظام سياسي اتسم بالضعف و اللامبالاة مما سيؤدي لمضاعفة نتائج الأزمة الدولية على شعبنا . إن عليهم أن يطبقوا، من الآن، مبدأ التقشف لترشيد مواردهم لمواجهة الارتفاع المتوقع المذهل في أسعار الحبوب و الطاقة و الخضروات و الزيوت و الأدوية … و الأقمشة و الأغطية … و التنقل.كما عليهم الاستعداد لاختفاء دول و تبدل خرائط دول أخرى في إفريقيا و ما يعنيه ذلك من موجات هجرات داخلية و خارجية، فيما ” النخبة الموريتانية الحاكمة” غارقة إلى الأذقان في نهب بلدها و تجويع شعبها و المتاجرة بمستقبله مع فرنسا و أمريكا؛ و هي قوى آئلة للأفول بمنطق التاريخ، الذي قضى بأن نهاية أي صراع عالمي كبير تصعد فيه قوى كانت سائدة و تسقط قوى أخرى كانت دونها.و سيكون من الخاسرين في هذا الصراع الملكيات العربية و الإمارات الأسرية و السلط العميلة و تنظيمات الإسلام السياسي و الأنظمة القطرية عموما و الحركات الانفصالية و ” منظمات حقوق الإنسان “، المرتبطة بالأجندة الغربية، التي اقتاتت خلال العقود الماضية على تركز الصراع العالمي في المنطقة العربية. فيما يفترض أن يكون الرابحون من هذه التغيرات الدولية القوى العربية التقدمية عامة و القوى القومية خاصة التي بقيت وحدها في ساحة المقاومة لنظام الهيمنة الأمريكية و أدواتها الإقليمية و الدولية. إنها فرصة لنهوض جديد للمشروع القومي العربي الذي يجد وطنه العربي لأول مرة ، منذ قرن، خارج بؤرة الصراع الدولي.و يتعين على البعثيين، بصورة أخص، استعادة فاعليتهم القومية التاريخية و يلتقطوا أنفاسهم للملمة جهدهم المنظم من جديد ، عقب تشتيته في ظل نظام القطب الأمريكي الأوحد. إنه من المرتقب، كنتيجة للصراع، انتعاش للخطاب الإديولوجي القومي العربي في ظل تشكل نظام دولي متعدد الأقطاب، بعدما كاد هذا الخطاب يندثر جراء هيمنة قيم الليبرالية المفروضة أمريكيا. و هذا أمر في منتهى الأهمية بالنسبة للبعثيين الذين يتمسكون بمشروع حزبهم و صيغ عملهم التنظيمية في خدمة المشروع القومي العربي، الذي لا غنى عنه ، و قد حملت نتائج التخلي عنه من المتاعب للأمة و لمجتمعاتنا العربية ما يكفي من دواعي التفكير و الاعتبار … و حان إلتقاط الفرصة التي يمنحها التاريخ للمستضعفين للأخذ بأسباب استنهاض هذا المشروع و النهوض به…
مارس ، 2022
مكتب الثقافة و الإعلام – القطر الموريتاني