بيــــــان
تفوح علينا هذه الأيام أرائج نيسان الأغر لتملأ المكان و الزمان ، في كل زاوية من وطننا العربي، بمناسبة الذكرى الخالدة ، الثامنة و السبعين، لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي. و إذا كان ميلاد حزب البعث استجابة لحاجة الأمة إلى فكر قومي ثوري تقدمي إنساني اقتحامي يعيد إليها ألقها الحضاري و ينتشلها من وهدة الانحطاط التي تردت فيها خلال القرون الماضية، فإن البعث ، منذ تأسيسه، لم يتهيب و لو مرة واحدة الالتحام الفكري و التنظيمي و العسكري مع الامبرياليات الغربية ، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، و الاشتباك مع القوى الرجعية العربية المتحالفة مع الصهيونية العالمية، التي ظلت الخادم الأمين للقوى الاستعمارية ، خاصة في ما يتعلق بتصفية القضية المركزية للعرب- فلسطين.
أيها الرفاق.. أيتها الرفيقات.
إن الواقع الأليم ، الذي تعيشه أمتنا في أكثر من قطر، خصوصا مشهد الإبادة الجماعية و التطهير العرقي الجاري منذ سنة و نصف بحق الشعب الفلسطيني في غزة على أيدي الصهاينة بأضخم و أفتك الأسلحة الأمريكية و بتواطئ بعض الأنظمة العربية و خذلان بعض آخر، ما كان ليحصل لولا تآمر العرب ، أنظمة و تنظيمات، مع الامبريالية الأمريكية على حزب البعث العربي الإستراكي و إسقاط نظامه الوطني و القومي في العراق، 2003، و اغتيال أبطال الأمة و رموز نضالها القومي، الذين تصدوا منفردين للغطرسة الأمريكية على مدى ثلاث عشرة سنة من المواجهة و المعارك بمختلف الصفحات، بينما وقف العرب و المسلمون، على طريقة قطيع المعز، يتفرجون على تحالف أمريكي- أطلسي- صهيوني-فارسي يبيد شعبا عربيا و مسلما بالتجويع عبر حصار اقتصادي غير مسبوق ثم بحرب إبادة ، لاحقا. إن أهلنا في غزة يتجرعون اليوم من ذات كأس الخذلان و التآمر على حزب البعث و رموزه، الذين لطالما حذروا من هذا المصير، الذي سيغرق الجميع في بحر من الدموع و الدماء و الإذلال.
أيها الرفاق.. أيتها الرفيقات.
إن خسارة الأمة، أي أمة، لا تكمن في حجم الضحايا و لا في فداحة التدمير المادي ، و إنما خسارتها في خسارة الوعي و تلوث الضمائر التي تقود للهزيمة المعنوية و تمهد للاستعداد للتخلي عن الحقوق. فكم من أمة تحطمت في حقب تاريخية متتالية لكنها حافظت على معنوياتها و تمسكت بمستقبلها ثم استعادت نهضتها و استرجعت شخصيتها و حقوقها و ربطت الصلة بين نهوضها من كبوتها بماضي أمجادها عندما لم تستسلم معنويا لأعدائها. فقد تعرضت الصين ( العظيمة هذه الأيام) لأكثر من اجتياح عسكري ، كما اجتاحت جيوش النازية باريس و أذاقت أهلها صنوف الإذلال، و تعاقب أقسى احتلالين ، فرنسي و أمريكي، على الشعب الفيتنامي، و خضع شعب الجزائر لاحتلال فرنسي لا نظير له في الفظاعة على مدى مائة و ثلاثين سنة، لكن هذه الشعوب انتصرت جميعا في نهاية ملاحمها بفضل إبقائها على جذوة الضمير الوطني متقدة ، دون حساب التكاليف و التضحيات في سبيل الحرية.
أيها الرفاق.. أيتها الرفيقات.
أما في موريتانيا، فإن حزب البعث العربي الاشتراكي ظل متمسكا بخطه المبدئي و صيغه التنظيمية في النضال ، عاضا بنواجذ رفاقه على هدف الدفاع عن قضايا شعبهم الحيوية مثابرا، في ظروف قاسية، على تعميق وعي الشعب الموريتاني بضرورة النضال في سبيل مصالحه ، متصديا في ذات الوقت للعقليات البدائية المتخلفة من جهة، و لصد قوى التغريب و الاغتراب المرتبطة بمجاميع لفرانكوفونية و تسلل أجندتها التخريبية للوعي الوطني، من جهة ثانية . و لم يقبل حزبكم يوما الانجرار إلى المهاترات المسفة التي باتت عملة رائجة في المشهد السياسي الوطني ؛كما لم ينخدع، من قبل، ب”ديموقراطية (لابول) ” المعلبة لأتباع فرنسا من حكام الأفارقة، و التي لم تكن في جوهرها سوى مسحوق تجميلي للمنظومات العسكرية الدكتاتورية الفاسدة. لقد استمر رفاقكم متشبثين بروح الثورية و لم تحجب عنهم غيوم المعاناة ، قطريا و قوميا، نور الأمل و الثقة بالله ثم في المستقبل. فمهما طال الليل فلا بد للصبح أن يسفر. كذلك، لم تحل السنين المرهقة بين ربط نضاله الوطني و نضاله القومي، فكانت قضايا أمتنا العادلة حاضرة في مواقفه : في فلسطين، و العراق و الأحواز العربية و ليبيا و اليمن و سوريا و لبنان… تجسيدا لمبادئه التي لا تتغير و لا تتبدل في أن خلاص العرب من محنتهم يكمن في وحدتهم القومية، و ليس في الدولة القطرية التي تتهاوى أمام كل عاصفة أجنبية.
أيها الرفاق.. أيتها الرفيقات.
لقد نبه حزبكم، منذ سنوات، في مواقف عديدة، قبل أن يدرك ذلك الجميع الآن، إلى أن العالم يتغير و حذر من المخاطر المترتبة على هذا التغيير ، داعيا سلطات البلاد إلى الاستعداد للأسوأ منها. كما نادى، مبكرا، على السلطات لتدارك التهديد الوجودي على البلاد الذي تمثله الهجرة المتزامنة للشباب الموريتانيين عن وطنهم و تدفق الهجرة الأجنبية إليه. و يبدو أن الذين شككوا في ذلك الخطر قبل سنوات قد شملهم الوعي بهذه الحقيقة الخطيرة على مستقبل البلاد. كما تنبأ الحزب بطرد فرنسا من مستعمراتها الإفريقية بفعل الوعي الوطني المتصاعد في تلك الشعوب، ملفتا انتباه السلطات إلى تداعيات هذا الطرد على أمن و استقرار تلك الشعوب الثائرة ،جراء مكائد فرنسا لها. إنه يجب مواصلة إخلاء البلاد، بلا هوادة، من آلاف المهاجرين غير القانونيين و رفض كل الضغوط الداخلية و الخارجية للتراجع عن هذا القرار السيتراتيجي و المصيري، كما يحذر من استصافة القواعد العسكرية الأجنبية، التي كانت وبالا كبيرا على الدول التي غامرت باستضافتها، في إفريقيا و خارجها.
أيها الرفاق.. أيتها الرفيقات.
إن الساحة الوطنية تشهد هذه الأيام حراكا سياسيا حول حوار وطني يلف الغموض أهدافه الحقيقية. إن الحوار الوطني في العادة تقتضيه سياقات الحرب الأهلية بين أبناء الشعب الواحد أو إطاحة نظام سياسي تأذى منه الجميع و سقط بفعل تحالف قوى مختلفة في مشاريعها و متفقة على إسقاط النظام السياسي فحسب، و هو ما لا ينطبق على سياقنا الوطني، خاصة أن رئيس الجمهورية، نفسه، في كلمته بمناسبة تنظيم عشاء رئاسي للطيف السياسي ، أعلن فيها أنه في مأموريته الأخيرة و أن مؤسسات نظامه تسير بانتظام و فاعلية ، و بالتالي فإن دعوته للحوار تبدو مناقضة لمنطق الأشياء. . إن حزب البعث، بين يدي الحديث عن هذا الحوار ، لا يرى أن فتح ملفات الماضي، بما تنطوي عليه من ألم، بروح الثأر، ستكون مفيدة لأي طرف، بل قد تدخل البلد في دوامة من الصراع أشد نكالا عليه مما هو عليه الحال الآن. إن بعض الشخصيات السياسية المتحمسة دوما “للحوار ” لم تستطع بعد الخروج من مواقفها الماضوية تحت عنوان ” الوحدة الوطنية” و ” الإرث الإنساني”. إننا هنا نعيد للرأي العام الوطني، خاصة العقلاء منه، التذكير بموقف البعثيين من أحداث 1989-1991، الذي عبروا عنه عقب إطاحة نظام الرئيس ولد الطايع: إنه يتعين أن تكون المقاربة لصالح روح التسامح و الوئام الوطني؛ بطي تلك الصفحة و تعلم الصفح و الانعطاف بصرامة نحو المستقبل. لقد كانت مقاليد الحكم يومئذ في يد دكتاتور لا يمكن لأي شخص أن يخالفه أو يعصي له أمرا ، و كان مرؤوسوه ، من العسكريين، ضحايا هم أنفسهم للترويع، شأنهم في ذلك شأن ضحاياه عموما. إننا لا نستطيع أن نقر بأن المنفذين كانوا مسؤولين جنائيا عن تلك الجرائم .. أم كانوا مجبرين عليها. إن الروح الانتقامية هي أكبر خطر لأن من شأنها أن تخلق تعبئة في صفوف شريحة أخرى تضامنا مع أولئك الذين سينعتون بأنهم مجرمون ، أي أولئك الذين نفذوا أوامر ذلك
الدكتاتور بالقيام بتلك الجرائم الخطيرة في السنوات 1989-1991. إن أمرا كهذا سيفجر صداما إثنيا لن يكون من الممكن تلافيه؛ بل سيكون ذلك الصدام أكبر خطورة من سابقه، و ستكون هذه المرة نتائجه المشؤومة عصية على التدارك و العلاج. إن الحل لن يكون قضائيا بأي حال ، بل الأنجع هو الحل السياسي . إننا بالحل القضائي لن نعيد الحياة إلى الأموات من خلال الحكم بالموت أو الإدانة بعقوبات قاسية في حق ضباط من مكونة أخرى، أو بترحيلهم للقضاء الدولي. إن المقاربة القضائية هي صب للزيت على نار الحقد في معسكر آخر. و عوضا عن ذلك، يجب تعويض الناجين و ورثة الضحايا، و هذا ما تقدمت فيه الدولة أشواطا كبيرة، مع الدعوة لتلافي نواقصه و تصحيح ثغراته المحتملة.
و بذات المنطق، يجب تعويض ضحايا التصفية الجماعية التي حصلت بحق البعثيين 1988 خارج أية محاكمة و دون أن يدعي النظام أن الأمر كان يتعلق بمحاولة انقلاب أو زعزعة الاستقرار.
أيها الرفاق.. و الرفيقات.
إن القضايا التي يجب أن تتجه إليها الجهود الوطنية هي إنقاذ البلاد من عواقب استمرار النهب المنظم و تفشي مظاهر الفساد و تسيد خطاب الكراهية و تحدي القانون علانية و ضعف السلطة القائمة و انتشار البطالة و اليأس بين الشباب و انهيار المنظومة التربوية و التعليمية و غياب الأمن … إن التوافق الوطني على مواجهة هذه الأخطار المحدقة بالبلد يبدو أمرا مستعجلا لخلق بيئة وطنية و عقد وطني جديد ينشئ مواطنين على حب الوطن و التآخي تحت سقفه و القناعة بخدمته و التعلق به على مستوى العواطف و التصرفات. إن بلادنا بأمس الحاجة لرجال دولة يفرضون هيبة الدولة و سطوة القانون، لا رجال عصابة يتصارعون على الكعكة و محاصصة صفقات الدولة و تقاسم المواقع في مؤسساتها.
6 نيسان، 2025.
قيادة القطر الموريتاني