موضوع عن هجرة الشباب نشر في العدد 70 من مجلة الدرب العربي الصادرة عن حزب البعث العربي الاشتراكي – قطر موريتانيا الصادر بتاريخ يناير 2023
هجرة الشباب الموريتاني.. أزمة مميتة للبلد!
منذ نهاية العشرية الأخيرة من القرن الماضي شهد بلدنا تسارعا ،مخيفا ، لرحيل مستمر و هجرة مكثفة لشبابنا إلى مختلف بلدان العالم. غير أن هذه الهجرة قد وصلت نسبا مروعة تنذر بأن البلد يتجه نحو التلاشي و أنه يعيش حالة نزيف دماغي هلّاك . فآلاف الشباب الموريتانيين ، من المتعلمين و غير المتعلمين، يفرون جماعياو سوية من جحيم الواقع الاقتصادي المتردي و البطالة التي تهرسهم دون رحمة في غياب أي بصيص أمل أو نقطة ضوء في النفق الذي يلف البلد برمته. و المفزع في الأمر أن هذا الشباب – الفار من وطنه اضطرارا – لا يلوي على شيء و لا يتلبسه أي حنين للعودة لوطنه لشدة الألم و الشعور بثقل أحمال المعاناة التي حملها معه إلى المهجر … و ما عاد يريد حتى التفكير بالرجوع يوما إلينا.و يبين الهوس بالحصول على جنسية بلد المهجر أن هذا الشباب يريد نسيان بلده الأصلي و يتطلع لوطن بديل عنه… مكتفيا ، بعض منه، حين يكتسب الإقامة أو الجنسية ، بالرجوع لبضعة أيام يقضيها غريبا و مغتربا مع من أدركه حيا من والديه… ثم يقفل راجعا كأنه أفلت من فك وحش ؛ و بعض هذا الشباب تتقطع به السبل أو يقطع هو نفسه السبل، بسكين العزم الصارم، دون عودته لموريتانيا، التي ترمز بالنسبة له إلى المعاناة و الظلم و التهميش و الحرمان… !
و السؤال المصيري هو ما مستقبل موريتانيا ؛ هذا البلد الذي يشهد هجرة شبابه على نحو هستيري و يتدفق عليه ملايين المهاجرين السريين من جيرانه نحو أوروبا، بعضهم يتجاوز و كثير منهم يخنس بانتظار التجنيس ؟ و ما هو مصير بلد تتضافر كل العوامل فيه على دفع شبابه للهجرة المكثفة منه؟
إن هجرة الشباب لم تكن بطرا كما لم تكن مفاجئة ؛ و إنما هي تعبير عن أزمة عامة و واقع اقتصادي متردي و مناخ سياسي طارد و بيئة اجتماعية كل ما فيها عوامل نفي لشبابها ( ثقافتها، تقاليدها، عاداتها،…) . إنه واقع لا يطاق و لا صبر عليه، بحيث أن الشباب في موريتانيا يمضي وقته في تقلب بين الصفائح الحارقة: المجال الاجتماعي، المجال السياسي، المجال الاقتصادي ، واقع التعليم… و لم يعد من سبيل، أمام عشرات آلاف الشباب، للخلاص إلا الهجرة أو الموت في سبيل الهروب من هذا البلد الجهنمي. لقد سدت في وجهه كل المنافذ للحياة الكريمة في وطنه، حتى مسابقات ضباط الجيش و قوى الأمن التي كانت متنفسا باتت حكرا على أبناء أو أقارب أصحاب الرتب العالية في هذه المؤسسة… حتى” المنظمات الخيرية ” طالها الاحتكار لصالح الأبناء المدللين لكبار الضباط ! إن هذا الواقع بهذه الدرجة من السوء لا يترك للشباب إلا خيارا من ثلاثة : إما أن يتحولوا إلى قوة مجتمعية إيجابية للنضال بخوض معركة الخلاص السياسي من الحكام الفاسدين و الصراع المفتوح مع البنية التحتية الاجتماعية للفساد التي هي حضن و كنف أسباب معاناة الشعب الموريتاني، برمته. .. أو يتحول هذا الشباب إلى كتل بشرية سلبية يراكمها الواقع السيء ، بعضها على بعض، فتصبح خميرة متعفنة للانحلال و الإرهاب … و أشكال الجريمة المنظمة . أو أن هذا الشباب يتيه على وجهه في الأرض، فرارا من الموت المعنوي إلى الموت البيولوجي، أثناء مغامرة الهجرة، أو الوصول إلى أوطان يمكن لهم فيها الحياة ! و الشيء المحير ، في هذا الواقع المحزن، هو تفرج الأنظمة على نزيف بلدهم من شبابه و كأن الأمر ليس فيه ما يستدعي الانتباه، أو كأن الوضع لا يعنيهم، أو كأنهم لهم مصلحة في ترصين سلطتهم تقتضي تشجيع إفراغ البلد من قوته الشبابية . و بكل حال من هذه الاحتمالات، فإن في الأمر ما يبعث على الاعتقاد بوجود خلل في عقول صناع هذا الواقع و قصور مميت في وعيهم بما ينطوي عليه أمر خلو البلاد، من شبابها، من خطر . فهل فكر هؤلاء أن هذه الهجرة تخلف فراغا هائلا على مستوى البنية الأمنية و الصحية و التعليمية… فمن أين سيتم الاكتتاب للجيش و الشرطة و الحرس و الدرك و التعليم و الصحة، و الإداريين … و البوابين و حراسة المؤسسات و العمال اليدويين … من أين ؟!!
أم أن هؤلاء الغافلين / أو المغفلين يفكرون ، على طريقة الآباء المؤسسين للدولة، بسد الفراغ الناتج عن هجرة شبابنا باكتتابات، في هذه المؤسسات، من شباب الهجرة المعاكسة، من البلدان المجاورة، إلى موريتانيا أو أوروبا.. أم يتركون الحال على ما هو عليه … نحو التلاشي !
موضوع عن هجرة الشباب نشر في العدد 70 من مجلة الدرب العربي الصادرة عن حزب البعث العربي الاشتراكي الصادر بتاريخ يناير 2023