” التنفيع” السياسي والشفافية..
مع مطلع القرن الواحد والعشرين بدأت رياح الشفافية تهب على إقليمنا،وفي أواخر عقده الأول انضمت موريتانيا على استحياء إلى منظمة الشفافية الدولية بالتصديق على المعاهدة الإفريقية ،لكن الخطوات الإجرائية لتأسيس منظومة قانونية منفصلةتحارب الفساد كانت في سنة 2016.وتمت مراجعتها لاحقا للملاءمة مع تغول منظومة الفساد.
رغم أن الدافع الحقيقي لسن تلك التشريعات لم يكن وضع حد للفساد وإنما تعزيز الثقة في مناخ الاستثمارات وبعث الأمل لدى المستثمرين لاستقطابهم عبر آلية مرونة وقابلية المناخ الاقتصادي للتفاعل الخلاق مع الفاعلين الكبار؛
مما أعطى لجريمة منح امتيازات غير مبررة حيزا كبيرا في تلك التشريعات.
لكن الجدير بلفت الإنتباه إليه هو أن ظاهرة الفساد ليست مقصورة ولامحصورة في التجاوزات الإدارية والمالية البحتة التي يرتكبها الآمرون بالصرف بدافع الجشع؛ بل إن المحسوبية” المفعمة”بسوء استخدام الموارد العمومية(التنفيع) ماهي إلا تجل آخر لظاهرة الفساد، وتتخادم الصيغتان لتعزيز نفوذ النخبة المتحكمة في نهب قوت الشعب متخذة من بعض الشكليات دثارا تستتر خلفه كإعلان اكتتاب في وظائف عامة ،وإعلان مناقصة.
وهكذا غدت وسيلة “التنفيع” السياسي أو ما يعرف لدينا ب”التعيين” أداة للتمكين للشخصيات المكلفة بالسيطرة على المشهد السياسي أو شبه استراتيجية للتحكم في لعبة إدارة القواعد الشعبية فتتزحزح بها يمينا وشمالا وشرقا وغربا بحثا عن المصالح الضيقة حتى يصبح الوهم مسيطرا على الأذهان بأن قبضة المتنفذين تتسع وتتحكم في مقاليد الأمور .
إذن فالتنفيع السياسي يعني شراء الولاءات السياسية وتخدير النخب برهة من الوقت في وسط بيئي طحالبي يتسم بالميوعة وسهولة التحلل في أي متغير.
أما عن حصاد التنفيع السياسي فهو دون شك طغيان الماحاباة ،وتكدس عناصر شبه ساسيةغير كفوءة وغير مثقلة بالأخلاق. وفي المقابل تتراجع إلى الخلف عناصر أخرى من ذوي الكفاءات والمهارات! كلما عجزوا عن مواكبة إيقاع سلاسل التطبيل التي تقذف ماكينة التزلف المتزاحمة في طابور التنفيع.
إذ انه بات من المعروف لكل مجموعة قبلية حقائب في أعلى هرم السلطة ودواليب في عنقها وجيوب ومخازن في الجهاز العصبي المركزي للدولة .ولها أيضا مخالب إعلامية تهش بها عن مصالحها كلما حاولت مجموعة ضغط ما أن تنال منها.
أما المسكنات التي تستخدمها السلطة الحالية لقضاء وطرها فهي تدوير المفسدين بإعادة الإنتاج وتبجيل الزبانية المعروفين بقدراتهم الخارقة في التزمير والتطبيل والنفاق كلما استهلكت وردا منهم أوتي برهط جديد، ناهيك عن التغاضي عن المخالفات المالية للخارجين من محطة التنفيع تشجيعا للداخلين الجدد.
لقد فرخ هذا الأسلوب الضار شبكات او جبهات داخل أذرع السلطة تتصارع فيما بينها على الكعكة فتنهش منها تلك وتقضم منها هذه دون التورع عن إظهار خلافتها للعلن حسب ما تقتضيه ظروف الحال وأمكن من إلهاء البسطاء من الناس عن واقعهم المزري الذي يرزحون تحت وطأته.
وتستمر وسط تراشق مجموعات الضغط هذه بالدعايات المغرضة وتلاعبها بمشاعر وطلعات المغلوبين على أمرهم لتبرير ممارساتها يتضاءل الأمل شيئا فشيئا في الشفافية .
والحياة لاتستطيع القرار على التناقض.