البعـث ولحـراطيـن
تقـديـم
إن محتويات هذا الكراس إذ تمثل جزء مشرقا من نضال حزبنا في القطر، وإنما في الحقيقة تشكل فقط جزء يسير من نضال الحزب منذ أن وجد كفكرة لدى قلة من الرفاق يحاولون شق طريقهم وسط عباب بحر من الصعوبات والتحديات لواقع متخلف سلاحهم الإيمان وزادهم التصميم مسترشدين بتعاليم مبادئهم السامية ومستلهمين من روح أمتهم كل معاني الإنسانية الحقة بتسجيلها واشراقات تمثلت في الارتباط الصميمي بمعانات المظلومين والمقهورين وفي مقدمتهم المستعبدين من شعبنا، وكل المستغلين (بالفتح). مجسدين في حركة مواقفهم نصاعة المبادئ وروح الرسالة الخالدة لأمتهم المجيدة.
إن تاريخ البعثيين في القطر الموريتاني هو تاريخ نضال شاق ودؤوب في سبيل إنهاء الرق والاستعباد اللذين يعاني منهما قطاع واسع من جماهيرنا الموريتانية. وإذا كان ما ينشر هنا يبدو فيه لوم للرفاق لأنفسهم، ونقصد المجهود النضالي لإنهاء ظواهر الاسترقاق وعدم المساواة فإنما لأن ميزة الرفاق أن لا ينظروا إلى ما تحقق وإنما إلى ما يجب أن يتحقق في المستقبل. إن الشك لا يساورنا في أننا في المقدمة في مضمار النضال ضد ظاهرة العبودية البشعة لكننا في نفس الوقت لا نرى إلا المزيد من الهمة والمزيد من النضال الدؤوب حتى يتم القضاء نهائيا على أي استرقاق أو أي تفاوت اجتماعي بين مكونات شعبنا.
لقد استطاع البعثيون ومن يلتقي معهم أن يحققوا في هذا المجال بعض الانجازات البسيطة تمثلت في رضوخ النظام إلى قرارات 15 تموز 1985 الخاصة بإلغاء الرق لكن تلكؤ الحكام وعدم مبدئيتهم أفرغ هذه القرارات
من محتواها وحولها إلى توجيهات أخلاقية عامة وغير ذات مضمون. لأن مثل هذه الخطوة الثورية لا يمكن أن يعطيها بعدها الكامل إلا الثوريون.
إن هذا الكراس الذي يضم بعضا من البيانات والمقالات التي كتبت في السنوات الماضية في الإصدارات الداخلية لحزبنا حزب البعث العربي الاشتراكي يعطي جزءا بسيطا عن صورة المعاناة التي يعانيها جزء أساسي من شعبنا وارتباط هذه المعاناة بصميم نضالنا من أجل حياة شريفة لإنساننا الموريتاني ولكنها في تواريخ ظهورها لا تمثل البداية الحقيقية لنظرة الحزب الصحيحة لهذا الجانب من الحياة الوطنية لأن الحزب ومن بداية وجوده جعل مشكل الرق وعدم المساواة في لب اهتماماته ولم يتوان في بذل ما يجب كلما وجد فرصة يعبر فيها عن رأيه وتوجهه الثوري، ولم يجد في أي مرحلة من مراحل تطوره بحالة انعزال عند واقع هذه الفئة، ولم يقبل في أي وقت الانخراط في سلك المستسلمين للعادات والتقاليد البالية، ولم يفرق في أي وقت بين سلوكه ومبادئه تجاه الحراطين بالرغم من عدم رضاه لما تحقق وتصميه على بلوغ الطموح وتحقيق عدالة حقيقية ومساواة حقيقة مهما كانت الصعوبات ومهما تكن المعوقات.
وإذا كانت جماهيرنا الموريتانية مدعوة لتغليب عناصر الخير في نفوسها والتجاوب مع الرفاق في المجهود الجبار الذين يبذلونه في سبيل حرية وانعتاق جزء أساسي من الشعب، فأن الرفاق وجماهير الحراطين مطالبون قبل غيرهم وأكثر من غيرهم بالالتحام في نضال لا يعرف الملل ولا الكلل لإنهاء هذه الظاهرة عن طريق تجذير الوعي وتعميق روح المساواة والإيخاء طبقا لقيمنا العربية والإسلامية وطبقا للمبادئ الإنسانية الصحيحة.
انواكشوط حزيران 1987
لا للعبـودية واللامسـاواة
العبودية واقع اجتماعي جائر يمثل أعلى مستوى من اللامساواة بين الأفراد، وهي تملك بعض الأفراد للبعض الآخر، مثل تملك الإنسان للدابة أو الآلة.
وعرفت البشرية نظام العبودية في فجر تأريخها حيث ظهر هذا النظام في مجتمعات البابليين والمصريين القدماء واليونان والرومان، كما عرفه الصينيون والأوربيون والعرب أيضا في القرون الوسطى.
وفي التاريخ الحديث وجدت العبودية عند ملاكي الأرض الزراعية في المستعمرات الأمريكية وبعض البلاد الإفريقية والآسيوية، لكن الواقع الاجتماعي العبودي ما لبث أن انحسر وأصبح وجوده في بعض الأماكن من العالم، بما في ذلك قطرنا، مرتبطا بظاهرة الركود والترسب الاجتماعي.
إن العبودية مستوى واطئ من العلاقات البدائية الجائرة التي عرفتها البشرية جمعاء في إحدى الفترات التاريخية الطويلة، وهي ليست ظاهرة اجتماعية يتميز بها صنف أو لون من أصناف وألوان البشر بقدر ما لا يمكن أيضا أن نقول إنها كانت وليدة تفكير أمة من الأمم أو نظام معين أو دين من الأديان… كما أن العبودية ليست مصيرا أبديا أو قدرا أزليا يكتب على بعض المجتمعات فيعانون من ويلاته مدى الحياة، وإنما هي – كعلاقات ونظام اجتماعي- ظاهرة تاريخية تمت مع المجتمع البدائي الذي يعيش على الفلاحة والتنمية الحيوانية وضعفت مع ظهور الآلة الميكانيكية وتحكم الصناعة والتقنيات في علاقات الإنتاج فضلا عن انبثاق الوعي التحرري على مستوى الأمم والشعوب المضطهدة.
فلننظر مثلا على سبيل المثال المجتمع الأوربي الذي كان يمارس العبودية بعنت وقساوة وعنجهية في التاريخ القديم والقرون الوسطى، والذي أصبح يكافحها بعد الثورة الصناعية، وأنتج الآلة الميكانيكية القادرة على القيام بدور العبد في الإنتاج بل باتت منافسا قويا لليد العاملة في بورصة الشغل وميادين العمل.
وكانت انكلترا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر تطارد تجار العبيد بين إفريقيا وأمريكا عبر الأطلسي لأنها كانت تنتج الآلات الصناعية وتريد بيعها للمزارعين الذين كانوا في غنى عنها لتوفر عضلات العبيد الزهيدة من حيث التكاليف.
وإذا كانت ظاهرة استعباد الشعوب من طرف قادة شعوب أخرى امتلأوا عتيا وطغيانا، إحدى أخطر أشكال الظلم والاضطهاد، فإن تاريخ الأمة العربية لم يخل من فترات حالكة ذاقت خلالها مرارة الحياة وسيطرت فيها سلوكيات قوى الشر الظلامية. لكن العبودية لم تترسخ كظاهرة عنصرية عند العرب جراء صلابة عود القيم الروحية العربية، والطابع الإنساني الأخلاقي الذي يميز نمط التفكير العربي.
ولقد عمق الدين الإسلامي الذي أنزل على الرسول العربي محمد بن عبد الله (ص) هذه القيم، وغرس أخلاقيات تأمر بالمساواة وتدعو للتجديد والخير والعدالة، واعتمد في بادئ الأمر على من لهم مصلحة في التغيير بمن فيهم العبيد حيث اشتهر المؤذن بلال والقائد البارع سلمان والخبير صهيب وزيد بن حارثه وغيرهم من الفرسان ورجالات العلم والأدب والحكمة.
ومع ذلك بقيت ترسبات واقع العبودية في المجتمع العربي ماثلة وأدت إلى اهتزازات عديدة أنهكت الدولة الإسلامية (ثورة الزنج في العصر العباسي) وساهمت مع عوامل أخرى إلى نهايتها المعروفة.
إن العالم عرف العبودية حتى في التاريخ المعاصر حيث أن قطرنا الموريتاني يشكل في الوقت الحاضر نموذجا واضحا للمجتمعات المتخلفة التي ما تزال تعيش الواقع العبودي بشكله القديم الأكثر وحشية وازدراء بالإنسان وهو الملكية أو الرق، والطاري الذي يقل عنه ظلما، وهو المعروف عندنا (الحراطين)… وقبل أن نشخص هذين الشكلين من العبودية يجدر بنا أن نذكر بأن فئات (العبيد والحراطين) جزء من الشعب العربي في الماضي والحاضر والمستقبل، لأن العرب شعب وليس عنصرا أو عرقا.. لأنهم شعب تربط بين أفراده – بمن فيهم العبيد والحراطين- وشائج اللغة والحضارة والماضي الروحي والتاريخي المشترك والمصير الواحد فضلا عن العامل الجغرافي وتطابق التقاليد والقيم والتفاعل بين الآمال والآلام.
وانطلاقا من المفهوم الراسخ للمسألة القومية نلاحظ أن العربي هو كل من سكن نقطة من الأرض العربية، وتكلم اللغة العربية، وارتبط ماضيه وحاضره ومستقبله بالأمة العربية الكبيرة بغض النظر عن لونه وعرقه وأصله، فالشعب العربي في السودان والصومال وأرتيريا وجيبوتي أسود البشرة لكنه في هذه الأقطار المنضمة رسميا إلى الجامعة العربية والحظيرة العربية يشعر بالانتماء القومي العربي الصميمي وبالتفاعل الوجداني والتشابه والتكامل الطبيعي مع بقية الشعب العربي.
وفي القطر الموريتاني يكفي أن نلاحظ للدلالة على هذه الوحدة العضوية بين العرب البيض والسمر مطالبة الطليعة الثورية الوطنية بإنهاء الرق وجميع أشكال العبودية منذ انبثاق الوعي السياسي هنا قبل ظهور الحركات العنصرية التي تحاول اليوم تشتيت الشعب الموريتاني وإبقاء فتيل الحروب الأهلية، وتأجيج الصراعات العقيمة في صفوف الشعب الواحد.
أن العبيد والحراطين – أي العرب السمر- في قطرنا يشعرون ويؤمنون بهويتهم العربية، ويفضلون العيش في وسطهم الطبيعي العربي بعيدا عن الدوافع والبواعث المصلحية العنصرية الظلامية الشوفينية التي تحاول إيهام الرأي العام الوطني بواسطة تصورات زائفة لا تخدم إلا قوى الشر الأجنبية بوجود خلاف بين العرب السمر والبيض في هذا القطر.. إنها جماعات عنصرية خائنة وغير نزيهة ونحن ملزمون الآن بالتصدي لها بواسطة حل مشكلة العبودية بشكليها الرق والحراطين.
أولا – العبيد في المجتمع الموريتاني،، الرق:
إن العبيد كثيرون في المجتمع الموريتاني – بعربه وزنوجه- وقديمون فيه حيث نكاد نجهل أصول ملكهم إن لم تكن قوانين العنف الاجتماعي البدائي التي تفرض سيطرة القوي على الضعيف. ويسكن العبيد مع أسيادهم في الفرغان (مضارب البدو الرحل) حيث يمكن التمييز بين خيامهم وخيام غيرهم، كصغر حجم خيامهم ووجودها قرب مراح الحيوانات التي يتحمل العبيد حمل أعبائها… ويسكن العبيد أحيانا المناطق الزراعية على شكل تجمعات متقاربة صغيرة تسمى (آدواب) ويكثر تواجدهم خاصة في المناطق الجنوبية والشرقية من القطر بسبب انتشار الفلاحة والتنمية الحيوانية فيها… ومع التطورات الاجتماعية الناتجة عن الجفاف، أصبح العبيد يوجدون بكثرة في المدن والضواحي حيث يكونون العمود الفقري لليد العاملة غير المتخصصة.
هذا بالنسبة للعبيد الذين يملكهم عرب، أما العبيد الذين يملكهم زنوج فقد لا نشعر من أول نظرة بوجود فارق بينهم وبين أسيادهم، بل قد نعتبرهم مجرد طبقة فقيرة إلى جانب طبقة غنية هي الأسياد ولكن الواقع أن التمايز من حيث المكانة الاجتماعية المستندة – في الأصل- إلى قاعدة من العرق أو السطوة والجبروت، وهذا التمايز قائم بالدرجة ذاتها بين الأسياد الزنوج وعبيدهم أو أنه قائم بدرجة أعلى منه عند الآخرين.
إن الاستيعاب الحضاري المتمحور بالأصل حول مثل سامية والذي هو أكثر تأصلا في عرب قطرنا – لأسباب شتى- منه لدى الزنوج قد أدى إلى تلطيف وتهذيب ممارسات التسلط لدى العرب بالقياس إلى ما هو عليه عند أسياد العبيد الزنوج فعلى سبيل المثال يلاحظ أنه لدى بعض فئات الزنوج هناك مقابر للأسياد هي غير مقابر الزنوج، فعلى سبيل المثال يلاحظ أنه لدى بعض الفصل وإن كانت عرفته حضارات راقية قديمة (الفراعنة) إلا أنه لم يخطر لملاك العبيد العرب على بال.
إن العبيد يعيشون عندنا وضعا جائرا يتميز بالجهل من ناجية والفقر من ناحية أخرى… إن أغلبية أشقائنا العبيد تعاني من الجهل لأن الفرص غير متاحة لها للتحصيل العلمي، ومن الفقر لأنها في المفهوم العرفي لمجتمعنا لا يملكون، لأنهم هم أنفسهم ملك لأسيادهم وخاصة إرثهم الذي يعود – بمنطق هؤلاء- إلى الأسياد، الشيء الذي جعلهم يزهدون في التملك وتحصيل الأموال وادخارها.
إن هذين العاملين يؤهلان الحراطين لأن يلعبوا الدور الأكثر ثورية في مجتمعنا الحالي المقدم على تطورات هامة في إطار مكافحة ظاهرة العبودية التي ينبغي أن يسهم كل طليعي ثوري في استئصالها من مجتمعنا.
ثانيا – الحراطين :
إن هؤلاء المواطنين أحرار شيئا ما لكنهم – في الواقع- لا يتمتعون بحريتهم وكرامتهم مثل غيرهم من المواطنين، إنهم كغيرهم من الفئات المضطهدة في مجتمعنا التقليدي مثل (إيكاون) و(ازناكة) و(لمعلمين) ينسبون إلى سيدهم القديم ولا يتمتعون بالاحترام والاعتبار اللائق لأنهم في نظر المجتمع الموريتاني مواطنون من درجة ثانية.
ويسكن الحراطين في الغالب مع العبيد لأنهم ذات المستوى الاجتماعي والثقافي فيخدمون أنفسهم ويكدحون للحصول على عيشهم.
لقد لعبت فئتا الحراطين والعبيد رغم هذا الواقع الجائر والشاذ دورا حافلا ومليئا بالبطولات والنشاط لا يمكن تجاهله. ففي كل المناسبات والحقب التاريخية نجدهم في معمعان تاريخنا الطويل، حيث نجد من بينهم العديد من أبطالنا الذين نفخر بهم ونقتدي بمثلهم السامية.. نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر :
1- في مجال الأدب والعلم والحكمة، محمود مسومة ومحمد خيرات.
2- في البطولات الحربية، احراطين الدخن وولد أمسيكه.
3- في السياسة، حراطين ولد أمحيميد.
4- في الاقتصاد والتجارة والسياسة أيضا، بلال أجولي، وهمدي…الخ.
إن أشقاءنا العرب السمر يفرضون احترامهم والإعجاب بهم والاعتزاز بهم، بمآثرهم وسيرهم وسلوكهم، وعلينا جميعا أن نكون لهم أوفياء، وأن يكون الوطن لهم شكورا.
إن المواطن الموريتاني الصالح لا يرضى أبدا أن يبقى هذا الجزء النبيل من شعبنا العربي تحت وطأة الرق واللامساواة البشعة… والطليعة الثورية تطالب بل تصر على القضاء النهائي على جميع أشكال الرق واللامساواة وستواصل النضال بضراوة حتى يتحقق النصر لإخواننا هؤلاء.
إننا نرفض تفرقة شعبنا على أساس اللون أو العرق، وعروبتنا لا تعتمد أي اعتماد على العرق أو اللون، إنما هي تاريخ طويل مليء بالبطولات المشتركة والانجازات العظيمة وبحضارة جديرة بالفخر والانتماء.
إننا شعب واحد اجتمع على هذه الرقعة من أرض الوطن العربي وناضل يدا بيد ضد الطبيعة القاسية، وضد الاستعمار والطغيان الأجنبي فانتصرنا وبنينا مجدا مشتركا قادرا على توحيدنا في الحاضر والمستقبل… وإن هذا المجد الذي صنعه الأجداد بدمائهم الزكية وعرقهم، هذا المجد الذي لا يعرف العنصرية.. هذا المجد الذي يجب أن يدفعنا اليوم إلى وحدة الصف والنضال من أجل أن تسود العدالة والمساواة في مجتمعنا.
إننا نطالب بإنهاء الرق الذي يعتبر أبشع أنواع الظلم، وبخلق جو من المساواة والعدالة الاجتماعية وبتفهم الأوضاع الجائرة التي يعيشها هذا الجزء من شعبنا.
إن اللجنة العسكرية بوصفها السلطة المسؤولة رسميا عن مصلحة هذا القطر مطالبة بالبحث عن حل سلمي وسليم لظاهرة العبودية في أسرع وقت وبالضرب بيد من حديد على كل الذين يسعون إلى تشتيت مجتمعنا خدمة لمصالح الأجنبي والقوى المعادية كالرجعية والإقطاعية.. ونطالب:
أ- إنهاء استغلال الإقطاعيين للعبيد والحراطين.
ب- إعادة النظر في ملكية الأراضي الزراعية التي يزرعونها ويقطف ثمارها الإقطاع.
ج- إعادة النظر في قضية الزواج عند أشقائنا العبيد والحراطين حتى يكون القرار بشأنه قرارهم ككل مواطن حر في هذا القطر، وإعادة النظر في إرثهم ومتعلقاتهم.
د- إنهاء الإهانات المعنوية التي يتعرضون لها ومحاسبة مرتكبيها أعسر حساب.
هـ- سن تشريعات واتخاذ إجراءات حاسمة لتحسين أوضاع هذه الفئة من مجتمعنا واستئصال ظاهرة العنصرية والاستغلال واللامساواة في هذا المجتمع.
إن مصلحة هذا القطر تدعونا إلى أن نتحرك بسرعة في هذا الاتجاه وننهي العبودية. ونتساءل في النهاية لماذا لا يكون تحرير ثلث المجتمع الواحد واجبا لإصلاح الثلثين ما دام (قتل الثلثين جائز لإصلاح الثلث)؟؟!
5/3/1980
وضعيـة العـرب السمر ومواقف اللامبالاة
إن أول شكل من أشكال استغلال الإنسان لأخيه الإنسان ظهر مع بروز انقسام المجتمع إلى طبقات مستغلة وأخرى مستغل وهي مالكو الرقيق والأرقاء أي ظاهرة المجتمع العبودي.
وقد مرت أوربا بهذه الوضعية منذ ألفي سنة حيث ساد فيها الرق سيادة تامة وكذلك الحال بالنسبة للشعوب الآسيوية والإفريقية. وإن القارة الأسيوية كانت أول قارة عرفت النظام العبودي، فقد استمر هذا النظام فترة تبدأ من 3000 قبل الميلاد إلى 224 ميلادية والتاريخ حافل بمحاولات مسمرة قامت بها طبقة العبيد من أجل تحرير نفسها وانتفاضة اسبارتاكوس معروفة بهذا الصدد فقد زعزعت هذه الانتفاضة الإمبراطورية الرومانية التي كانت تقوم على الرق وما تزال ثمة بقايا من الرق عند الشعوب الأقل تطورا في إفريقيا واندنوسيا وبورما، وتعتبر بلادنا من بين الأقطار التي مازالت توجد بها هذه الظاهرة رغم قرار إلغاء العبودية في 5 يونيو 1980. إن الأبحاث التاريخية تؤكد أن التركيبة الاجتماعية لمجتمعنا ذات جذور ضاربة في التاريخ إذ بدأت تتحدد منذ عهد المرابطين وتركزت بعد دخول بني حسان وصراعهم مع الزوايا في حرب (شربب). ويرى بعض المؤرخين أن هذه التركيبة الاجتماعية منقولة من الجزيرة العربية ثم ما لبثت أن تشكلت وتأقلمت مع ظروف البلد بينما يرى آخرون أنها تعود إلى حالة الفوضى التي غالبا ما عاشتها البلاد والتجاوزات والعنف الناجمين عنها في ظل غياب سلطة مركزية تفرض وجودها على الجميع والشحاحة المتناهية للمناخ، الشيء الذي يجعل مصادر العيش محدودة وليست في متناول الجميع.
ومهما يكن من تفسيرات لهذه التركيبة، فمجتمعنا الحالي مجتمع فاقد للتوازن الاجتماعي، تتعايش فيه الطبقات القديمة للمجتمع الإقطاعي العبودي مع الطبقات الجديدة المنبثقة عن النظام الرأسمالي المتخلف.
ففي قمة الهرم توجد الطبقات الارستقراطية المسيطرة والمتملكة وفي وسطه توجد البرجوازية الصغيرة، وفي أسفله المسحوقين المستغلين، أزناكه –الصناع- إيكاون- العمال- العرب السمر.. فما هي أسباب استمرار ظاهرة العبودية في مجتمعنا رغم أنها كادت تختفي من دول العالم، ورغم أننا حصلنا على الاستقلال منذ 25 سنة وأن فرنسا الدولة التي استعمرتنا كانت تدعي أنها تعمل المدنية وتدافع عن حقوق الإنسان!!؟.
إن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لا تكفي وحدها لتفسير استمرار هذه الظاهرة، فقد كان للسلطات الحاكمة سواء في الفترة الاستعمارية أو في مرحلة الاستقلال دور كبير في إبقائها وإن كل الإجراءات التي اتخذت في هذا الصدد ظلت شكلية وبعيدة عن الجدية. فإذا كانت فرنسا أصدرت قوانين تلغي العبودية في كافة مستعمراتها فإنها شجعتها عمليا في موريتانيا خوفا من تغيير التوازن الاجتماعي الذي قد يضعف سيطرتها على البلد عن طريق التحالف مع الإقطاعيين والوجهاء من القبائل. لقد أصدرت فرنسا فعلا مجموعة من النصوص تلغي العبودية في جميع أقاليم إفريقيا الغربية الفرنسية، من أهمها :
– المرسوم الصادر في 27 ابريل 1848، الذي يلغي الرق في جميع المستعمرات الفرنسية.
– المرسوم الصادر في 12 دجمبر 1905، الذي يعاقب من 2 إلى 5 سنوات سجن، و 500 إلى 1000 فرنك غرامة مع المنع من الحقوق المدنية المحددة في المادة 42 من القانون الجنائي جميع الأعمال التي يقام بها بنية التصرف في حرية فرد ضد إرادته.
فواضح من هذه النصوص أن فرنسا ألغت نظام الرق في مستعمراتها، لكن الواقع أن هذه الظاهرة ظلت كما هي في فترة الاستعمار، بل إن هذا الأخير جعل العرب السمر في خانة الحيوانات عندما حدد الوعاء الضريبي للثروة التي يملكها سيد إقطاعي ب 2.5 فرنك عن كل رأس من الغنم، و 12.5 فرنك عن كل مملوك، وكان بعض الأسياد الذين لا يملكون ثروة حيوانية يدفعون الضرائب عن (عبيدهم) المسجلين في السجلات الفرنسية الرسمية، وهكذا يكون المستعمر الفرنسي عمل على إبقاء واستغلال هذه الظاهرة بعيدا عن روح ومبادئ الثورة الفرنسية، وإعلان حقوق الإنسان.
ومع استقلال بلادنا في مطلع الستينات كان من المفروض أن تتغير الوضعية، وينعم جميع المواطنين بالحرية والمساواة، وفعلا يستنتج من ديباجة الدستور ومن خصوصية تحريم الرق والمساواة بين كافة أفراد المجتمع. فالفقرة الثانية من الديباجة تعلن تعلق الشعب الموريتاني بالدين الإسلامي، وبمبادئ الديمقراطية، كما حددها إعلان حقوق الإنسان سنة 1789والإعلان العالمي الصادر في 10 دجنبر 1948. ولسنا بحاجة إلى تأكيد أن الدين الإسلامي هو دين المساواة والتآخي بين جميع البشرية (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى) و(كلكم لآدم وآدم من تراب).
أما التصريح العالمي لسنة 1789 فقد نص في فقرته الأولى على أن (الناس يولدون ويبقون أحرارا ومساوين في الحقوق) وهذه الفقرة نجدها على لسان عمر بن الخطاب (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا) أما التصريح العالمي لسنة 1948 الذي تحيلنا إليه ديباجة الدستور، فقد أكد في مواده الأولى و4 و6 و7 و17 على تحريم ظاهرة الرق فالمادة الرابعة مثلا تقول : (لا يستعبد ولا يسترق أحد إن العبودية وبيع الرقيق في جميع أشكالهما ممنوعان).
أما نصوص الدستور فواضح منها إلغاء الرق كذلك، فالفقرة الثانية من المادة الأولى تنص على (أن الجمهورية تضمن لجميع المواطنين بدون تمييز في الجنس أو الدين أو الظروف الاجتماعية المساواة أمام القانون) لكن كل هذه النصوص بقيت حبرا على ورق وظل العرب السمر يخضعون لشتى أنواع الاستغلال والاضطهاد، فهم موضوع جميع العمليات القانونية التي يخولها حق الملكية: الهبة، الكراء، البيع، الخ…، وهم غير مسؤولين سياسيا، ولا مدنيا ولا يمكن أن يتملكوا الآن (العبد وماله لسيده)!!. ورغم كونهم مسلمين إلى حد بعيد، لا تصح شهادتهم ولا تجب عليهم صلاة الجمعة ولا الحج ولا الزواج أو الاختلاط بغيرهم من العرب البيض!.
إن السلطات الحاكمة في عهد ولد داداه لم تعمل أي شيء من أجل تغيير الوضعية، بل كثيرا ما كنا نشاهد واليا أو حاكما أو رئيس مركز إداري يهدد بالضرب والسجن شخصا فر من سيطرة سيده واختار أن يعيش كسائر البشر حياة مطمئنة سعيدة. ومع تصاعد نضالات الحركة الوطنية في السبعينات ومعاداتها للفروق الطبقية، ومع بروز ظاهرة الجفاف التي أحدثت تحولات كبيرة على مستوى البنى الاجتماعية، ومع بداية وعي طبقي لدى هذه الفئة المسحوقة، جاء قرار إلغاء العبودية في 5 يوليو 1980 من بين قرارات وطنية أخرى ساهم حزبنا بشكل مباشر ونشط في صياغتها.
غير أن هذا القرار الذي كان وطنيا حقا لم يخل هو الآخر من النقص، نظرا لغموض الأمر القانوني الذي صدر عن اللجنة العسكرية بخصوصه في 9 نفمبر 1981 فقد تضمن هذا الأمر القانوني 4 نقاط إحداها تتعلق بطريقة نشر الأمر القانوني بينما المواد الثلاث الأخرى تتناول بشكل غامض :
1- مسألة إلغاء الرق.
2- التعويض للأسياد.
3- تكوين لجنة للإشراف على تنفيذ القرار.
وعليه فقد ربط تحرير الأرقاء بالتعويض الذي ربط هو الآخر بلجنة سيحددها مرسوم، وما زالت حتى الآن لم تر النور.
إن هذا الأمر القانوني كغيره من القوانين التي سبقته ناقص من حيث الشكل ومن حيث المضمون. إن عدم إصدار مراسيم تشرع النص العام للقانون وتحدد طرق تنفيذه ذا طبيعة أخلاقية فقط، وليس قانونا بالمعنى الصحيح. كما أن قرار اللجنة العسكرية التعويض للأسياد هو مسألة غير واردة، فإذا كان هنالك من تعويض، فمن المفروض أن يكون لصالح الذين استغلوا لفترة طويلة.
لقد أرادت اللجنة العسكرية كسب تأييد الأسياد والعرب السمر في نفس الوقت، رغم الرأي الاستشاري الذي صدر عن علمائنا والذي تحفظ على الأسس التي قام عليها في بلادنا. فبدل أن يشجع هذا الرأي اللجنة العسكرية على حل المسألة حلا جذريا وواضحا، أقرت هذه الأخيرة مبدأ التعويض للأسياد باسم الشريعة الإسلامية!! وكأن الأسس التي قام عليها الرق عندنا أسس صحيحة وسليمة أقرها الدين الإسلامي مسبقا. ومن جهة أخرى فإن هذا القرار هو قرار فاقد للأبعاد الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، التي يتطلبها أي تغيير حقيقي.
إن القضاء على هذه الظاهرة هو مهمة حزب ثوري طلائعي وليس هنالك من نظام سياسي أو حركة سياسية مؤهلة موضوعيا لقيادة هذا التغيير غير حزبنا حزب الجماهير المسحوقة.
إن على كل البعثيين المناضلين أن يدركوا أبعاد هذه الوضعية التي يجب أن تشغل بالهم واهتماماتهم اليومية، ويفكروا في إيجاد الحلول الصحيحة التي تبدأ بتبني مشاكل هذه الفئة وفضح الممارسات الظالمة التي تتعرض لها، والعيش معهم في قراهم وأحيائهم وفضح دعايات الشيوعيين والعنصريين المغرضة، التي تريد أن تستغل الوضعية لتدمير الوحدة الوطنية ونفي عوامل الانسجام والوحدة بين جماهيرنا العربية.
إن وعي هذه المسألة بجميع أبعادها واعتبارها مسألة مركزية في نضالنا اليومي، من شأنه أن يساعدنا على التنبؤ بعناصر المستقبل.
إن فئة العرب السمر التي تعي أنها مهمشة من طرف مجتمع خدمته بكل ما لديها من قوة وسخرت له حياتها، هذه الفئة لا يمكن إلا أن تشعر بالغربة والانتقام وبالتأكيد أنها ستكون ضحية لكل الدعاة المضللين.
يناير 1986
الحراطيـن… هـذه الفئة المظلـومة
يعرف واقعنا الاجتماعي اليوم ظاهرة في غاية الخطورة سيكون لتطوراتها دور كبير في صنع مستقبل البلاد وتوجيهه.. هذه الظاهرة تتمثل في حالة الاسترقاق التي ترزح تحتها قطاعات واسعة من جماهيرنا في هذا القطر. إن معالجة ظاهرة الرق في موريتانيا تحتاج إلى كثير من الحذر والدقة من جهة، كما أنها تحتاج إلى كثير من الصراحة الثورية والفعل والأخلاق من جهة ثانية، ومثل هذه المعالجة مع ذلك كله ضرورة ملحة لا غنى عنها.. لقد آن الأوان لكي تغدو ظاهرة الرق لدينا مستوعبة أيديولوجيا وثوريا، ولكي يغدو تعامل الحزب الثوري معا واضحا مستنيرا وفاعلا إيجابيا.
ومن أجل إدراك مثل هذه المعالجة المطلوبة، يلزمنا أن نتعرف على الظاهرة بملابساتها أولا، ثم تتلمس أسلوبنا في التعامل معها ثانيا.
تعتبر ظاهرة الرق من أفظع مظاهر امتهان كرامة الإنسان واستغلاله من قبل أخيه الإنسان، حيث ظلت وصمة عار في جبين الإنسانية منذ عصور موغلة في القدم. لقد عرفت هذه الظاهرة في الحضارات القديمة، بل إن بعض المؤرخين يعيدها إلى عصور ما قبل الحضارات المعروفة لدينا اليوم كحضارة ما بين النهرين (العراق حاليا) والحضارة النيلية (مصر).
لقد ظهرت بحوث عديدة تهتم بدراسة التاريخ على أساس من تطور علاقات الإنتاج. وقد أكدت هذه البحوث أن المرحلة العبودية هي المرحلة الثانية من التطور الاجتماعي للإنسان حيث تلت مباشرة المرحلة المشاعية البدائية.
لقد كان من نتائج ظهور التجمعات الرعوية والزراعية الأولى أن ظهرت الملكية إلى جانب ظهور الأسرة كنظام اجتماعي، وكانت هذه الملكية في الغالب تنصب على الأرض بحيث بدأت حاجة الإنسان إلى زراعة هذه الأرض واستغلالها في الظهور، وكان من مخلفات ذلك أن ازدادت الحاجة إلى الأيدي العاملة أيضا. ومن ثم بدا نظام استرقاق الأسرى واستخدامهم في العمل بدل قتلهم الذي كان سائدا قبل ذلك.
ومهما يكن من تنوع الآراء حول تاريخ نشوء ظاهرة الاسترقاق، فإن الجميع متفقون على أنها نشأت منذ حقب تاريخية مغرقة في القدم قبل ظهور الديانات التوحيدية السائدة اليوم. كما أنهم متفقون أن الاسترقاق لم يكن على أساس اللون أو العرق أو الدين، وإنما ثمرة من ثمار الحروب والتطور الاجتماعي للبشرية في مراحلها الأولى.
لقد كان نظام الحروب القديمة يقضي بأن يقتل المنتصر المهزوم، أي أن هزيمته كانت تكفي للحكم عليه بالإعدام اجتماعيا.. ومن ثم جاء مدلول الاستقرقاق لاحقا ليعني، بطريقة ما، أن إنسانية الأسير قد قتلت عندما تم استقراقه.
وقد اختلف وضع الأرقاء ومعاملتهم من منطقة إلى أخرى، ومن حضارة إلى حضارة.. كما اختلفت مواقف الأديان من هذه الظاهرة، ومن ثم انعكس ذلك الاختلاف على سلوك معتنقيها إزاء أرقائهم، كل حسب تعاليم دينه.
ويعتبر الدين الإسلامي، في هذا الصدد، من أكثر الأديان تعاطفا مع الأرقاء وإنسانية في تعامله معهم، فقد أقر مجموعة من التعاليم، أن لم نقل التدابير، التي ساهمت بشكل فعال في التخفيف من وطأة الرق، والحد من انتشاره. لقد جعل الإسلام من تحرير الأرقاء السبيل الأنسب ليكفر المسلم عن ذنب أتاه أو إثم اقترفه.. بل إنه في مواضع عدة هو السبيل الوحيد للوصول إلى ذلك.
كما جعل الإسلام منح الرقيق حريته حسنة ويتقرب بها من الله، ولم يكتف بذلك، بل تدخل في علاقة السيد برقيقه، وقننها محددا واجبات الرقيق وحقوقه، وتجاوز ذلك أيضا إلى تحريم الاسترقاق إلا ضمن شروط دقيقة ومحددة.. كل ذلك جاء به الإسلام رغم تعارضه مع الواقع الاجتماعي السائد يومها، والذي كان يقوم أساسا على الاسترقاق والاستغلال.
ورغم هذه الروح السمحة التي جاء بها الإسلام ونبيه العربي العظيم (ص) فإن هذه الظاهرة كانت من القوة والثبات بحيث سهل على دعاة الاستغلال وأدعياء الإسلام تعميقها من خلال مبررات وذرائع لفقوها وألصقوها بالإسلام نفسه.
وهكذا استمرت مأساة الاسترقاق تلف أطراف الكرة الأرضية وتنتشر في كل الأمم، واستمرت تتوسع خلال القرون الوسطى، حيث بلغت أوجها في الفترة الممتدة من القرن الخامس إلى القرن الثامن عشر وقد لعب اكتشاف أمريكا في القرن الخامس عشر وما تلى ذلك من هجرة إليها وحاجة المهاجرين إلى اليد العاملة، لاستغلال الثروات الهائلة وزراعة الأرض الزراعية البكر لعب كل ذلك دورا رئيسيا في التطور المذهل لتجارة الرقيق بين شواطئ إفريقيا والقارة الأمريكية.
وفي أواخر القرن الثامن عشر، وبعد قيام الثورة الفرنسية وشيوع مبادئها الإنسانية وبفعل التطور الاقتصادي، والاجتماعي، والفكري، في أوربا، بدأت الشعوب الأوربية تعي خطورة الرق، وبدأ العمل لإنهائه يعطي نتائج إيجابية أدت، في النهاية، إلى إلغاء ظاهرة الاسترقاق في أوروبا، ومحاربة الاتجار بالرقيق عبر المحيطات.
ولم يكن ذلك سهلا ولا دون مقاومة، وإنما كان عملا صعبا بسبب استماتة تجار الرقيق والمستفيدين منها في الدفاع عن مصالحهم قبل أن تتم هزيمتهم نهائيا، وكدليل على قوة التمسك بالظاهرة من قبل المستفيدين منها، فقد كاد قرار تحرير العبيد في الولايات المتحدة أن يحطم الاتحاد الأمريكي في عهد الرئيس أبراهام لانكولن ولم ينجح هذا الاتحاد إلا بعد انتصار أنصار الحرية في حرب أهلية طاحنة أنهت آخر وجود الاسترقاق على الأرض الأمريكية… وبانتهاء الرق في القرن التاسع عشر في أمريكا، أصبحت القارتان الأمريكية والأوروبية خاليتين تماما من هذه الظاهرة.
كما كان من الآثار الإيجابية النادرة للمد الاستعماري في إفريقيا وآسيا أن سادت النظم والقوانين الاستعمارية في هاتين القارتين ليؤدي ذلك كله إلى ضعف ظاهرة الاسترقاق تدريجيا في بعض البلدان المستعمرة.
ولأن الاستعمار لم يرد مكافحة الظاهرة في البلدان المستعمرة، باعتبار أن لا مصلحة له في ذلك، فإن إجراءاته في هذا الصدد ظلت شكلية وبعيدة عن الجدية في بعض البلدان، ومنها بلادنا بشكل خاص، لذلك نرى أن بلادنا، على خلاف ما حدث في أقطار عديدة، لم تستفد من القوانين الجديدة التي جاء بها المستعمر في مجال الرق. هذا رغم أن الموضوعية تدفعنا إلى التنويه ببعض الإجراءات المحدودة التي قام بها الاستعمار من أجل حماية الذين يفرون من الاسترقاق، حيث أنشأ لهم أحياء في عدد من المدن عرفت ب (جانبور) كما استطاع، إلى حد، تضييق ظاهرة الاتجار بالعبيد والحد منها، غير أن عمق الظاهرة وثباتها وشيوعها جعل هذه الإجراءات تبدو غير فعالة وغير جادة. خصوصا إذا ما وضعنا في الحسبان الإمكانيات الهائلة التي كان يملكها المستعمر، والفترة الطويلة التي حكم فيها بلادنا، إضافة إلى اطلاعه الواسع على كل ما يجري من ممارسات غير قانونية ضد المسترقين.
لقد شهدت الفترة المحدودة لبداية الاستقلال تفاقما لمخلفات الظاهرة لدرجة جعلت المراقب المهتم ينظر إليها كمشكلة تطرح نفسها بإلحاح، غير أن حكومة المختار ولد داداه كانت تنزع إلى تجاهلها مدفوعة إلى هذا المنهج من قبل الإقطاع والوجهاء.
هكذا استمر الوضع إذن على ثباته طوال العهد (الاستقلالي)، رغم نضالات القوى القومية والتقدمية منذ أواسط الستينات، والتي اتسمت بالكثير من الجرأة والوضوح في طرح المشكلة والمطالبة بحلها حلا عادلا وصحيحا.
وفي بداية العاشر من يوليو ظل التفكير بالمشكلة قائما، إلا أنه تميز بمنحاه الجاد الناتج عن الضغوط التي مارستها القوى القومية التقدمية على السلطة التي شاركت فيها وساهمت إلى حد بعيد في مجيئها. هذا إضافة إلى بروز نواد عمل منظم للأرقاء تمثلت في (حركة الحراطين) التي بدأت نشاطها منذ أواخر عهد ولد داداه، واستمر هذا النشاط إلى ما بعد العاشر من يوليو 1978 – وقد تم إقرار إلغاء الرق في الخامس من يوليو سنة 1980، بعد أن ظل سجين الخلافات والتصفيات على مستوى اللجنة العسكرية سنتين متتاليتين، فوجد بذلك أهم قرار تاريخي عرفته موريتانيا في تاريخها الحديث، وهو قرار إلغاء الرق.
ورغم الأهمية القصوى لهذا القرار، إلا أنه ظل فاقدا لجرأته وأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لا بد لأية عملية تغيير من توفرها خصوصا في واقع يقوم على الاستغلال وتتجذر فيه ظاهرة الرق من خلال قرائن ثقافية وتاريخية مغرقة في العراقة.. وهكذا، وبشكل يمكن أن يعتبر تراجعا فاضحا، ظل الرق حالة قائمة حتى الآن!.
إن أي معالجة أو عمل لا يضمن المساواة وتكافؤ الفرص الحياتية لكل المواطنين الأرقاء من أدوات الإنتاج، ويقطع دابر النظرة الدونية والمتعالية التي ينظر بها إلى هذه الفئة.. أي عمل لا يكون كذلك لن يأتي بالفائدة المرجوة. كما أن أي تأخر أو تباطؤ في المعالجة لن يؤدي إلا إلى تدمير إمكانيات الحل المتوفر اليوم، وكذلك تدمير إمكانيات الوحدة الوطنية الخلاقة، مع ما يحمله ذلك من مخاطر على مستقبل البلاد. وفي هذا المضمار لا بد من الإشارة إلى تلك الأطراف التي عملت على زرع ضروب من الشكوى والانتماء عن طريق دعايتها المضللة والمغرضة بين صفوف جماهير الحراطين (العرب السمر) لقد جند الشيوعيون العنصريون أنفسهم لنفي كل عوامل الانسجام والوحدة بين جماهيرنا العربية في موريتانيا، فأججوا الواقع الاجتماعي بطريقة مزيفة خادعة، وأعلوا التناقضات الثانوية الهامشية وجعلوها تطفو فوق السطح لتشغلنا عن الرئيسي في حياتنا، كما عملوا على تأجيج النزعات القومية بطريقة هدامة عنصرية فيها صلف وتهور.
غرق الشيوعيون العنصريون في نبش التاريخ، ومقارنة الألوان، ليطلعوا علينا مشككين في الانتماء العربي الأصيل للحراطين (العرب السمر) ملفقين آراء بائسة كلها دعاية مغرضة.. ناسين أن ماركس، لم يدرس التاريخ أو لون البشرة قط كمعيار لمعرفة الهوية الحضارية لشعب من الشعوب، وإنما نظر إلى البيئة واللغة والعادات والإطار الحضاري كعوامل شاخصة وواقع معاش يمتلك كلمة الفصل وحده.. وقد يكون من الضروري أن ننصف ماركس البريء من حفنة المرتزقة هذه!.
نعود من هذا الاستطراد إلى صلب موضوعنا.. أن التعامل الصحيح مع مشكل الرق والاستعباد بكل أشكاله الصريحة والمقنعة في سبيل النضال من أجل حله جذريا بما ينسجم مع التفكير القومي التقدمي والإنساني– هذا النوع من التعامل يتطلب منا الأمور التالية :
أولا – الإطلاع الكلي على واقع هذه الفئة (الأرقاء).
ثانيا – التعامل المبدئي والسليم معها.
ثالثا – الاختيار بين الالتزام المبدئي ومعاكسة التيار في سبيل الحق والعدل والوطن، وبين توخي السهولة والاستسلام للكسل النظري والنضالي مع ما في ذلك مجافاة للمبادئ وخطر عليها وعلى الوطن.
ولنعد إلى هذه النقاط بشيء من التفاصيل :
أولا – الوضع العام للعبيـد أو (الحراطين) :
الأرقاء الذين ما زالوا خاضعين لمسترقيهم :
يعاني هؤلاء من وضعية غاية في الصعوبة. ليس نتيجة الجهد الشاق الذي يبذلونه أو المعاملة السيئة التي يتعرضون لها فحسب، وإنما أيضا بسبب من انعدام إمكانية انفصالهم عن مستغليهم، ما داموا عاجزين عن توفير وسائل بديلة لعيشهم، بل إن مجال إدراكهم في هذه الحالة لا يتعدى هذه النقطة. إن آلة الاستغلال لا ترحم، وهي بذلك تدمر كل بذرة حية في الإنسان الذي سرعان ما يفقد تحت ضرباتها أي شعور لكرامته أو شرفه، أو حتى بذاته. هكذا يعيش الأرقاء ضحية بهذا النظام الجائر، لا فرق بينهم وبين الحيوانات، يتناسلون ويتكاثرون بفوضوية دون ضوابط من زواج، وحينما يحدث في بعض الأحيان، فإنما يكون بإرادة السيد وحسب مشيئته، وفي كل الظروف، فليس للعبيد حق المشاركة في الشؤون العامة لمجتمع ملاكهم، إن هؤلاء يحتاجون إلى مجهود توجيهي ثقافي جبار تبذله الحركة الثورية من أجل بعث الإحساس بالذات والكرامة لديهم.
الحراطين أو (العبيد الذين انفصلوا عن أسيادهم لأسباب عديدة) : وهي فئة كبيرة جدا، ورغم عدم وجود إحصاء يركن إليه حول عددها، فإنها تنتشر في كل مناطق القطر بما في ذلك المناطق الزراعية والرعوية في الريف، والتجمعات المدينة الحضرية. كما تنتشر بكثافة في الشواطئ المتاخمة لحدودنا الجنوبية، بل وعلى مدى شريط الساحل السنغالي من النهر. وتنقسم فئة الحراطين إلى ثلاث فئات تتداخل في كثير من الشؤون وتتمايز في قليل، وذلك على النحو التالي :
1- الحراطين الذين عتقوا حسب الأسلوب المعهود في الشريعة الإسلامية، وأصبحوا لا هم عبيد، ولا هم متساوون مع الأسياد لأن المجتمع ينظر إليهم كعبيد قدماء! وتلعب هذه الفئة – غالبا- دورا ما في النظام القبلي، وتتمتع بقدر من الاستقلال الاقتصادي، وإن كانت دائما عرضة لاستغلال ملاكها القدماء وأفراد عشيرتهم، وذلك بطرق ووسائل مختلفة: بالشعوذة و(البركة) أحيانا، وبالضغوط والإغراءات أحيانا أخرى. ويعيش الحراطين المعروفين ب (الأحرار) أو (الخظار) كما يعرفون في شرق البلاد على الزراعة وتربية المواشي شأن مواطني الريف كافة. ومهما بلغ الشأن بهذه الفئة التي عرف منها أبطال في الحروب وعلماء وأدباء وكرماء، فإن منحدريها لا يستطيعون التزواج مع ملاكهم السابقين أو أفراد عشائرهم وكذلك العشائر الأخرى.. وقد تمتلك أسر من هذه الفئة مع مرور الأيام عبيدا يخدمونهم سواء عن طريق الشراء أو غيره، إلا أن ذلك كله لا يوصلهم إلى اعتلاء مركز اجتماعي جديد لأن نظرة المجتمع إليهم ستبقى كما هي باعتبارهم معتقين.
وهكذا إذن تتميز هذه الفئة عن الفئتين الأخريتين من حيث تمتعها بغطاء ديني ناتج عن عتقها (الشرعي)، إلا أن كل الفئات تتشابه فيما عدا ذلك من حيث واقع الفقر والتدني الاجتماعي والدور الهامشي في الحياة العامة، التي تغدو كلها عوامل مشتركة بين جماهير الحراطين عموما.
الحراطيـن المنحـدرين من (جانبور) إلى المـدن :
لقد انفصل هؤلاء عن مختلف القبائل وتجمعوا في عدد من المدن تحت الحماية – الاستعمارية مشكلين فئة استطاعت دخول الخدمة في الجيش والإدارة الفرنسية، وتوفرت لها إمكانية تعليم أبنائها الثقافة الاستعمارية. كما اختلطت وتمازجت ببعض الفئات الزنجية التي تشكل غالبية المنتمين للجيش والإدارة الاستعمارية، الأمر الذي أدى إلى نتائج عدة :
أولا – فقدان هذه الفئة للشعور بانتماءاتها الأصلية، وانقطاع صلتها بالقبائل المنحدرة منها، وبدل ذلك عملت على تنمية علاقات خاصة بالوسط الزنجي في الإدارة الاستعمارية.
ثانيا- أصبحت هذه الفئة في وضع اقتصادي وثقافي أفضل بالقياس إلى الفئتين الأخريتين.
ورغم صغر هذه الفئة، وضآلة ما تمثله إزاء جماهير الحراطين الواسعة، إلا أنها لعبت دورا لا يستهان به في استقطاب جانب كبير من الجيل المتنور للحراطين خصوصا عبر ما عرف بالجناح الزنوجي لحركة الحراطين، وحركات القوميين الزنوج والشيوعيين.إن هذا لا يعني أن الجناح العربي في حركة الحراطين لم يلعب دورا أساسيا في وعي الحراطين، وإنما أردنا فحسب أن نشير إلى الدور الخطير الذي لعبت هذه الفئة في تزييف وعي جماهير الحراطين الكادحة بفعل العوامل آنفة الذكر، وبفعل مرحلة الحيرة والبحث عن الذات التي كان يعيشها الحراطين.. إن الأساس السليم لحل مشكلة الحراطين لا يكون إلا عن طريق الوعي القومي العربي التقدمي باعتبار أنهم كانوا نتاجا لنمط اجتماعي بائد ساد الأوساط العربية في موريتانيا، وإن أوضاعنا تشهد ثورة جدية على هذا النمط بشكل يؤصل الهوية الحقيقية للحراطين وموريتانيا.
الفئة التي انفصلت عن مستغليها عبر مرحلة طويلة من النضال الصبور والمحاولة: وهي التي تشكل أكثرية الحراطين، وقد تم انفصالها لأسباب متعددة، فمنهم من أنفصل بالتراضي مع سيده لكي يتفرغ لزراعة أرض هذا الأخير ولكن انفصاله يغدو واقعيا غير مشروط مع مرور الوقت، ويبدأ في المطالبة بحقوقه المشروعة في الحصول على نصيب من ملكية الأرض. ومنهم من يشتري نفسه إضافة إلى طرق عديدة أخرى.. هؤلاء غالبا ما يشتغلون بالفلاحة وتربية المواشي، ويتجمعون لذلك في قرى زراعية ثابتة أو متنقلة تعرف ب (أدواب) بحيث تغدو هذه القرى حصنا مثاليا للفارين من أسيادهم.
إن الانتشار الكبير لهذه القرى (أدواب) في كافة المناطق الزراعية بالقطر يشهد على ضخامة هذه الفئة التي تعتبر من أكثر الفئات إنتاجا وأهمية غير أن واقع الفقر المدقع والجهل ما زالا يحولان دون المشاركة الفعالة لهذه الفئة في الحياة العامة، كما أنها تتعرض لحرمان شامل من الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة.
وعلى أية حال، فثمة ظاهرتان هامتان ستؤثران على المدى القصير والمتوسط في وعي هذه الفئة العامة :
– إن واقع الاستغلال والاضطهاد والفقر في الريف، يدفع بجانب كبير من الأجيال الشابة للهجرة إلى المدن مع ما يرافق ذلك من نتائج.
– إن واقع الاستغلال وعدم العدالة في الريف يؤجج الصراع الآن بين مالكي الأرض والأسياد من جهة، وبين الحراطين المزارعين من الجهة الأخرى.
وقد تظافرت هاتان الظاهرتان لتؤدي بإلحاح إلى النتيجتين التاليتين :
النتيجة الأولى : إن تحولات كبيرة لا نعرف سرعتها تحدث في عقلية الحراطين سواء كانوا في الريف أو المدن.
النتيجة الثانية : أن نمو الوعي السليم لدى فئة الحراطين هذه يجب أن يظل أولى أولويات النضال القومي العربي في موريتانيا، وأن أي انحراف أو تزييف لوعي هذه الفئة يعتبر خطرا على حاضر الوطن ومستقبله، نقول ذلك بعد ما ظهر واضحا أن الشيوعيين والزنوج العنصريين يقومون بنشاط محموم يستهدف تضليل جماهيرنا الكادحة هذه والمزايدة عليها. هذا مع يقيننا أن الحس الأصيل لجماهيرنا سيكشف عن الحقيقة المروعة لدعاية هؤلاء الغريبة المضللة.
ثانيا – أسلوب التعامل المبدئي مع المشكلة :
قد يتساءل متسائل منا بمرارة : هل حاولنا فعلا، في يوم من الأيام ترجمة مبادئنا فيما يتعلق بهذه القضية؟ هل أمننا قط بأن الحراطين والعبيد جزء ن الأغلبية المسحوقة الكادحة في وطننا العربي، ويتابع هذا المتسائل قائلا: إذا كنا فعلا مؤمنين بمبادئنا، فكيف نفسر رضوخنا للواقع، وتغاضينا عما يجري ضد القومية العربية وضد الحس الإنساني السليم فيما يخص فئات الحراطين؟
وقد يأتي آخر ليجيب بأننا لسنا المسؤولين عن الواقع، وبأننا ما فتئنا نعمل وننادي بتغييره، باعتباره واقعا فاسدا يحتاج إلى تقويم وإصلاح، غير أن الوقت ما زال مبكرا لتوفير الظروف الموضوعية المواتية. والواقع، إن ثمة صعوبات عملية ونظرية تعترض العمل السليم بين جماهير الحراطين، وسنوجزها فيما يلي
أولا – أن الحزب الثوري لا يتواجد وحده على الساحة، وإنما يشاركه فيها النظام، والحركات السياسية الأخرى ذات الأهداف الاستهلاكية والإصلاحية. إن الاتجاهات التوفيقية الباحثة عن السهولة والحلول السريعة سواء كان النظام أو الاتجاهات الأخرى وغالبا ما تكون عامل عرقلة لنضالات الجماهير الكادحة خصوصا في وضعيتنا الحالية حيث تعاني فئات الحراطين من تلاعب النظام والانتهازيين الشيوعيين المتلاعبين بمصالحها وأهدافها. إن مهمة الحزب الثوري تغدو كبيرة ومعقدة في هذه الحالة، حيث يتوجب عليه أن يناضل على جبهتين : أن يناضل ضد الانتهازيين والمزايدين من جهة، وأن يناضل ضد الإقطاع والمستغلين من جهة ثانية.
– لقد خلقت عقود الصراع غير المتكافئ بين جماهير العرب السمر وبين مستغليهم ترسبات عميقة من الناحية السيكولوجية، حيث تظل جماهير العرب السمر فريسة عقد متعددة ملؤها الشك والحذر. إن هذه الجماهير قد تشعر في وقت من الأوقات بتناقض مؤقت بينها وبين الحزب الثوري، الذي لا يعدو – من وجهة نظرها- كونه نخبة من المثقفين. إن وجود مثل هؤلاء المثقفين بين تلك الجماهير، مدعاة، في نظر تلك الجماهير، إلى الغرابة والحذر الزائد وعدم التجاوب، الأمر الذي يتطلب من الحزب الثوري نضالا صبورا مستميتا، يتحدد مدى نجاحه بمدى سرعته في إذابة وتجاوز التناقضات الوهمية القائمة بينه وبين الجماهير التي هي غايته ووسيلته في آن واحد.
– أن النظام الإقطاعي قد خلق في داخل فئات لا تملك عبيدا ولا أراضي زراعية، ولكنها لأسباب عديدة دينية اجتماعية أو تاريخية، لا تنسجم مع الحراطين..
إن تناقض هذه الفئات الفقيرة مع جماهير الحراطين، سيتحول إلى تناقض مؤقت مع الحزب الثوري الذي يقود نضالات الحراطين ويؤازرهم. إن هذه الفئات الفقيرة تنتشر في المدن وفي الأرياف، ولكن أوضاعها الاقتصادية لم تؤثر جديا في تغيير عقليتها القديمة، بل إن تشبثها بماضيها يغدو متينا باعتباره تاريخا مشرفا. إن ذلك يجعلنا نتوصل إلى الملاحظة التالية : وهي أن النضال بين جماهير الحراطين لا يكفي لحل مشكلتهم، وإنما يجب أن يدخل هذا النضال في حياة مختلف الفئات الاجتماعية الأخرى، باعتبار الموضوع إطاحة شاملة بعقلية ونمط اجتماعيين قائمين.
– أما الصعوبة الرابعة في النضال بين الحراطين، فتكمن في واقع الأمية والجهل التي تسود أوساطهم.. إن مهمة الحزب الثوري يجب أن تكون ثقافية قبل أن تكون سياسية محضة، خصوصا أن هذه الفترة تشهد ميلا كبيرا لدى الجماهير في تعلم القراءة والكتابة.
ثالثا – الخيـار الثـوري :
إن الاختيار المبدئي يحتم وضع المشكلة على رأس أولويات نضالنا ليس لأنها تهدد مصير بلادنا فحسب، وإنما لأن مبادئنا تملي علينا الانحياز للحرية والاعتماد على الطبقات الأكثر كدحا وتعرضا للظلم في المجتمع، وبالتالي الأكثر مصلحة في التغيير الذي نريد له أن يحدث.. هكذا يمكننا أن نختم بحثنا هذا بالملاحظات التالية :
الملاحظة الأولى : إن فئة العرب المستعبدين هي الأكثر تعرضا للظلم من بين كل الجماهير المسحوقة في مجتمعنا.. وإن حزب البعث العربي الاشتراكي يعمل على توعية هذه الفئة وتأهيلها لممارسة دورها الهام في نهضتنا القادمة وإن هذا الموقف ليجد جذوره في فكر حزبنا وأدبياته.
الملاحظة الثانية : إن محو الرواسب العالقة في أذهاننا إزاء ظاهرة العبودية والانقلاب على ذاتنا هي مهمة ملحة، وهكذا يغدو مثل هذا الإجراء تجسيدا لروح مبادئنا في الحرية والمساواة، وهي الروح التي يجب علينا تصميمها وتنميتها لدى شعبنا.
الملاحظة الثالثة : أن العمل بين الحراطين وكل المسحوقين يجب أن يظل هما يوميا ومسؤولية دائمة يتحملها كل رفاقنا، ويخلقون منها ساحة رحبة للتجريب والمحاولة والإبداع والخلق.
الملاحظة الرابعة : إن الاحباطات والنكبات هي حالة ملازمة للعمل الثوري وهذا العمل لا يتأصل إلا بمقدار قدرته على استيعاب هذه الاحباطات وتجاوزها عن طريق الإصرار الدائم والمثابرة والصلابة والجرأة الثورية.
الملاحظة الخامسة : إن المعوقات الكثيرة التي تواجه العمل بين الحراطين تستوجب وسائل غير تقليدية لهذا العمل. وهي وسائل لن يتم اكتشافها إلا بعد سلسلة طويلة من التجارب والعبر والمعاناة.
سبتمبر 1983
نحـو بعـث العـرب السمـر
من أجل الوصول إلى أهدافه الكبرى، المتمثلة في الوحدة والحرية والاشتراكية، حدد حزبنا، حزب البعث العربي الاشتراكي، الإستراتيجية الثورية طريقا له، معتبرا الجماهير الكادحة المسحوقة وسيلة وغاية في آن واحد.
كغـاية : يستهدف نضال حزبنا إقامة المساواة والعدالة والسعادة لصالح الجماهير المضطهدة والمستغلة الخاضعة لسيطرة الإقطاع والبرجوازية وحليفها على الصعيد الدولي، والامبريالية.
وكوسيـلة : اعتبر حزبنا، إيمانا منه بالطاقات اللامحدودة للجماهير الشعبية عندما تعي مصالحها وعندما تعبأ وتنظم من طرف حزب طلائعي، أن الجماهير الشعبية هي وحدها القادرة على دحر الرجعية وإقامة نظام اجتماعي عادل من نوع جديد، أن أي وصاية أو تفويض في العمل الثوري مستحيلة وغير مقبولة، ذلك أن الجماهير هي وحدها التي في مقدروها ويجب عليها أن تقيم سعادتها بنفسها.
إن أي جماعة أو نخبة لا تستطيع أن تحقق نيابة عن الجماهير هذه المهمة لكن هذه النظرة الشمولية والعلمية لكي تكون فعالة تحتاج في كل زمان وفي كل قطر أن تكون مجسدة بتحليل موضوعي للواقع الاجتماعي المعاش وعلينا إذا أن نلائم بين المفاهيم والمبادئ النظرية لحزبنا والواقع، لتفادي الوقوع في الخطأ المميت لبعض الحركات التقدمية التي تعيش بأفكارها في عالم معقلن ومنسجم بينما تعيش في الحقيقة اليومية في تناقض مع نظريتها في تطابق تام مع الأفكار السائدة للرجعية والطبقات المالكة.
وبتعبير آخر يجب أن نقرأ الواقع الموريتاني بمنظار أيديولوجية حزب البعث العربي الاشتراكي، أو إذا شئنا أن نقرأ أيديولوجية الحزب بمنظار الواقع الموريتاني، الشيء الذي يؤدي إلى نفس النتيجة.
إن ما هو خطير ومدمر على المدى البعيد هو أن نظل نقرأ فكر الحزب ولا نطبقه على الواقع الاجتماعي القطري، أو نحلل الواقع الاجتماعي الموريتاني، وليس على ضوء مذهبنا السياسي.
إننا فقط ببذل هذا الجهد التحليلي نستطيع التوصل إلى فهم حقيقي لمجتمعنا وأيديولوجيتنا وإذا درسنا، على أساس هذه الاعتبارات، الفكرة المركزية المشار إليها سابقا في إستراتيجية الحزب التي تجعل من الجماهير الشعبية الوسيلة والغاية للثورة، يتضح أن هنالك واجبا يفرض نفسه علينا ألا وهو دراسة المجتمع الموريتاني لتحديد شيء أساسي : من هم أصدقاء الثورة ومن هم أعداؤها وما هي الطبقات التي لها موضوعيا المصلحة في التغيير الجذري؟
وبتعبير آخر الغوص إلى ما وراء المبدأ و(الدوغم) النظري لمعرفة ما يعنيه بالتحديد هذا المبدأ في الواقع الموريتاني الخاص وحل المعادلة لأن تكرار معطيات المعادلة باستمرار لا يعني إيجاد الحل.
إن المجتمع الموريتاني مجتمع طبقي تدرجي تتعايش فيه الطبقات القديمة للمجتمع الإقطاعي مع الطبقات الجديدة المنبثقة عن النظام الرأسمالي المتخلف.
ففي قمة هرم المجتمع توجد الطبقات الأرستقراطية المسيطرة والمتملكة : الإقطاعية القائمة أصلا على النسب وعلى قوة السلاح في عهود الفوضى وإلى جانبها الإقطاعية الدينية والبورجوازية الكومبرادورية والبيروقراطية.
وفي وسط الهرم توجد البرجوازية الصغيرة وفي أسفل الهرم يوجد جمهور المسحوقين والمستغلين : أزناكة، الصناع، إيكاون، العمال، الفلاحين وكما هو معلوم مسحوقي المسحوقين : العرب السمر الذين من بينهم عشرات الآلاف ما زالوا معبدين حتى الآن رغم (قرار إلغاء الرق)!!
موضوعيا، الطبقات التي لها المصلحة الأكبر في التغيير الجذري هي الطبقات المسحوقة سواء كانت أزناكة – أمعلمين- إيكاون –عمال- فلاحين- عرب سمر معبدين أم أحرارا شكليا، لكن الطبقة الأكثر اضطهادا واستغلالا من بين جميع هذه الطبقات هي بدون شك طبقة العرب السمر.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن مبادئ حزبنا تؤكد على أنه كلما كانت طبقة أكثر استغلالا واضطهادا تكون أكثر ثورية من غيرها.
وإذا كان الأمر كذلك – وهو كذلك بالتأكيد- فإن الطبقة التي يجب أن تشغل بالنا واهتمامنا الأول دون سواها هي طبقة العرب السمر.
إن الحزب حينما حدد أن غاية نضاله، من بين غاياته، هي تحقيق طموحات الطبقات الكادحة في المساواة والعدالة والسعادة وحينما أكد أن هذه الطبقات هي أداة التغيير، هذا الحزب لا يمكن إلا أن يكون حزب الطبقات الشعبية الواسعة و’ن هذا يتطلب:ـ
1- أن يتم التركيز أولا وقبل كل شيء على هذه الطبقة وأن يكون جزء أساسي من نشاطنا واهتمامنا موجها بصفة ملموسة ويومية نحوها حيث أنه في هذه الطبقة تكمن قدرات الحزب وجماهيره الحقيقية الأكثر نزاهة والأكثر استعدادا تلك الجماهير التي لن تتراجع أبدا في النضال لأن المبادئ التي لن تتراجع أبدا في النضال وأهدافه تعكس مصالحها وطموحاتها، ولأنها في المجتمع الحالي ليس لها ما تخسره سوى أغلال السيطرة.
2- أن يكون الولاء لمبادئ الحزب خاصة بالنسبة للثوريين والمثقفين (المنحدرين من طبقات أخرى) والذين اختاروا الابتعاد عن المصالح الأنانية لطبقتهم الأصلية واختاروا الالتحاق بحزب الثورة العربية.
وهذا الولاء يعني أن أي تناقض يمس هذا الاختيار على مستوى الأفكار أو على مستوى الممارسات العبودية المنتشرة في المجتمع يجب اعتباره مساسا بالولاء لأفكار حزب البعث العربي الاشتراكي ومبادئه.
ولا يمكن لحزب الجماهير المسحوقة أن يكون حياديا في الصراع الحتمي بين المتسلطين والمظلومين، بين الأسياد والمعبدين، إن اختياره محسوم مسبقا فهو حزب المسحوقين وكل خلط أو تفسير آخر في هذا المجال هو من باب الخطأ الشخصي وليس تأويلا ممكنا أو مقبولا للأيديولوجية العربية الثورية.
3- أن يترجم الحزب، ومناضلوه كافة، بشكل كامل ويومي أصدق طموحات طبقة العرب السمر وأن يدافعوا عن مصالحها الأساسية وأن لا يتركوا أي غموض في مواقفهم الشخصية، قاطعين بذلك الطريق أمام دعاية الأعداء المسمومة.
إنه من الواجب والضروري أن يكون سلوكنا ودعايتنا متماشيين مع مبادئنا الثورية لكي يتأكد العرب السمر نهائيا – وحتى أقلهم إطلاعا ومعرفة بحزبنا- أن الإطار الوحيد الملائم لنضالهم الطبقي في سبيل المساواة الكاملة والحرية الحقيقية إنما هو حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يرفض المواقف الإصلاحية وأنصاف الحلول.
وللوصول إلى هذا المستوى الجديد الذي يقتضيه نضالنا الذي أصبح أكثر وعيا، يجب تجسيد مفهوم الانقلابية الذي ينادي به حزبنا.
كيـف يكـون ذلكـ؟
أ- لا بد من مراجعة وتغيير تصورنا للتخلص من بقايا أفكار وتصورات المجتمع الرجعي العبودي، إن البعثي لا بد له أن يتخلى نهائيا وبصراحة عن العقلية والثقافة العبوديتين، ولو كان في الأصل منحدرا من الطبقات الأرستقراطية (الإقطاع الزمني والإقطاع الديني) فمن اللازم التوفيق الدائم بين الفكر والممارسة وترجمة المعتقدات إلى واقع ملموس.
ب- يجب أن نعيش بين صفوف العرب السمر في قراهم (أدوابه) وأحيائهم (الكبات) وفي خيامهم وأكواخهم ويجب إقامة مختلف الروابط معهم من صداقة وزواج.
وبسبب النظام الاجتماعي القديم الذي تعودوا عليه بالإضافة إلى الظلم المأساوي الذي كانوا ضحية له فإن العرب السمر قد لا يفهمون أحيانا – وخاصة الأقل وعيا منهم- أن عربا بيضا يفضلون العرب السمر، ولكنهم سيتعلمون بمرور الزمن أن البعثيين يشكلون عنصرا من نوع خاص.
ج- يجب فضح الممارسات العبودية ومكافحة الظلم واللامساواة والسيطرة، وإلى الوقوف إلى جانب من لا حق لهم وهم يتحملون كل الواجبات وكل الأعباء.
وإنه لمن الطبيعي أن يكون الكثير من العرب السمر قد فقدوا الأمل وسلموا بأمر العبودية الواقع، وما ذلك إلا سبب مضاف إلى أسباب أخرى تدعو بإلحاح إلى العمل الجاد على نوعية هذه الجماهير ومع ذلك فإن الكثير منهم قد بدؤوا يهجرون إيمانهم القديم بأزلية العبودية والنظام الاجتماعي الظالم وأصبحوا يشعرون بضرورة مقاومة جماعية ويرفضون الخضوع للأسياد.
وقد أخذ ذلك أحيانا شكل تمرد بائس يطالب بالثأر. ومن يتعجب من قفزة عشوائية يقوم بها إنسان يتخبط للتخلص من الحبل الذي يخنقه؟
إن ما ينبغي الآن هو العمل على توعية هذه الجماهير حتى تسير على الدرب القويم من أجل الانعتاق كما يجب توضيح المطالب وتحديد طرق الكفاح وأشكال التنظيم الملائم للجماهير الأقل وعيا.
د- يجب مواصلة تعميق دراسة هذه الطبقة وظروف حياتها والعلاقات الاجتماعية التي تسودها، وبهذه الطريقة تتحسن قدرتنا على العيش والعمل فيها، كما سنلمس بصفة أدق احتياطيها الثوري وميزاتها المتعددة، كما سنقدر قيمها ومثلها كمجتمع خال من العقد ينشد الحق وسنكشف أن هذه الطبقة تقل فيها الخيانة والخداع إذا ما قورنت بالطبقات العليا وهي إذا ما تعهدت والتزمت تكون مستعدة للنضال والتضحية بلا حدود.
إن رسالتنا في هذا القطر، وفي هذه المرحلة، تتمثل في النضال من أجل المساواة وتحرير الرجال والنساء المستعبدين. إنها لمهمة سامية حقا، تتجسد فيها قوميتنا وإنسانيتنا الثورية. ولنعرف أنه لا توجد حتى الساعة حركة تقود وتوجه نضال حركة العرب السمر بصفة حقيقية وفعالة، ولنعرف بصفة خاصة أن حركة الحر، وهي حركة ذات طابع نقابي أكثر منها سياسية، ليس لها من القوة النضالية ولا من العمق الإيديولوجي ما يمكنها من قيادة العرب السمر.
إن هذه المهمة تقع موضوعيا وطبيعيا على عاتق حزب ثوري وطلائعي هو حزب البعث العربي الاشتراكي. وبذلك نكون أدركنا أين يوجد جيش التغيير وفتحنا آفاقا جديدة واسعة أمام الحزب. إن المناضلين الذين سيغرسون شجرة الحزب في الطبقة الأكثر ثورية في المجتمع، طبقة معذبي القرن العشرين، مسحوقي المسحوقين أي طبقة العرب السمر، إن هؤلاء المناضلين سيكونون قد أنجزوا ثورة لا مثيل لهما تدعو إليها مبادئنا ومعطيات الواقع الحي..!!.