رؤيتنا  للتغيرات السياسية و الجيو- استيراتيجية في العالم.

قبل أكثر من سنتين أصدرنا  سلسلة مقالات شهرية عبر جريدة الدرب العربي تبشر بأن العالم دخل في عملية تغير و تمرد على النظام الدولي الذي انبثق عن الحرب العالمية الثانية؛ و كان في جوهر مؤسساته و مآلاته  نظاما أمريكيا جسد الهيمنة الغربية عامة و للولايات المتحدة الأمريكية خاصة التي تفردت على نحو مطلق بمصير الدول و الشعوب عقب انهيار حائط برلين1989- 1991. لقد رصدنا  مبكرا مؤشرات التمرد على الغرب و قيمه و أساليبه. لم تكن التحولات الجارية مباغتة و إنما كانت حصيلة طبيعية و نتيجة متوقعة لمسلسل من الأحداث و التفاعلات  الدرامية التي بدأت بغزو العراق و احتلاله و دحر المقاومة العراقية لهذا الاحتلال و انسحاب أمريكا مهزومة و مأزومة… ثم مرورا بما يسميه الغرب و عملاؤه ب”الربيع العربي”  و فشله لاحقا، فالحرب الروسية الأوكرانية و صولا لمعركة طوفان الأقصى البطولية؛ فضلا عما يجري من معارك اقتصادية و سياسية و إعلامية و تقنية بين أمريكا و الصين معظمها في أشد درجات الخفاء و الإخفاء. و الأمر الأكيد أن عجلة التاريخ نحو التغيير العالمي انطلقت و لن تعود إلى الخلف . و  كما أنه لم تتمكن قوة أن توقف اتجاه التاريخ 1989حين أزفت ساعة نهاية الحقبة السوفيتية مع ثورة تيميشوار في رومانيا  و انهيار جدار برلين في ألمانيا، فلن تتمكن قوة من إيقاف اتجاه التاريخ نحو انحسار الرأسمالية و قيمها الليبرالية و التنظيمية.  إن الصراع الدولي الجاري سيؤدي لأحد سيناريوهين: فإما أن ترضخ أمريكا و  مجراتها من الامبرياليات الغربية إلى نتائج الأمر الواقع حيث ستنقسم  خريطة النفوذ الدولي بين الكبار المتصارعين ؛ فيستقر العالم على تفاهمات تتعلق بدوائر المصالح السيتراتيجية لكل منهم. و إما أن تركب أمريكا رأسها و تصر على التمسك بسيطرتها المطلقة على مقدرات العالم و سلطان النفوذ؛ و عندها سيشهد  العالم حربا عالمية جديدة تجره إلى الفناء و الدمار.

لقد أشرنا إذن  الإرهاصات الأولية لهذه التحولات الدولية لعل سلطة بلدنا تنتبه إلى ذلك و تفتح عينها على التغيرات الجيو-استراتيجية  التي بدأت و دعوناها للاستعداد لمواكبتها عبر الشروع في إحداث التغيير اللازم و المناسب لها على نحو ما  كان الرئيس السابق معاوية ولد الطايع  ذكيا في إلتقاط اتجاه التغيرات الدولية 1989 نحو هيمنة الغرب و ما سيترتب عليها من فرض الديموقراطية الليبرالية و نمط الاقتصاد الرأسمالي على بقية العالم. فأعلن الانفتاح السياسي و القبول بالتعددية الحزبية، إبريل 1991،  و قبلها ،1986، وافق على   العمل مع مؤسسات النقد الدولية و شروطها ، و هو لها كاره. ذلك أن الوعي السيتراتيجي بالتحولات الدولية الكبرى  من شأن الأذكياء من الحكام لما ينطوي عليه من استيعاب للسلبيات  و لما يمثله من فرصة لبقاء الأنظمة و استقرار البلدان. و بخلاف نظام معاوية ، لم تبد السلطة الراهنة في بلدنا أي اهتمام لأحداث العالم و  بالتالي بقيت زاهدة في التفكير في أدوات جديدة سياسية تمكن البلاد و السلطة من التكيف في وجه رياح التغيرات العالمية. بخلاف ذلك، ظلت هذه السلطة متمسكة بكل متعلقات الماضي : الأدوات، الأساليب، الشعارات. و لعل أخطر ما وقع فيه “صانع القرار ” في هذه السلطة الحالية من بين جميع أخطائه ، على كثرة أخطائه و غيابه اللامسؤول عن واجهة القيادة، هو عمله على احتواء ” قوى المعارضة” و تدمير أي موقف أو فرصة للممانعة في وجه السلطة؛ مما أوقع البلاد في فراغ سياسي مميت للسلطة و المعارضة معا ، و الخطر  أكبر على مستقبل وجود البلاد ؛ لأنه يفتح الباب على الفعل المجهول و الفاعلين السريين في خضم تحطم الثقة بالأحزاب و مصداقية قادتها. الآن، لا يدري أحد من الذي أيقظ هذه السلطة على أن البلاد تعيش فراغا سياسيا خطيرا. الملاحظ أن رسلا برائحة السلطة يخبطون، عشية الاستعدادات للانتخابات الرئاسية،  في كل اتجاه من أجل خلق الحيوية للمشهد السياسي، الناتج عن مؤتمر “لابول”  الفرنسية  ،  الذي يلفظ أنفاسه هذه الأيام.و في سبيل هدف إنعاش هذا المشهد السياسي الميت سريريا ، و تفاديا للحرج من ترشح الرئيس ولد الغزواني  للانتخابات القادمة  ليسابق نفسه  في غياب أي منافس ذي حد أدنى من المصداقية و في حضور طاغ للانكفاء الشعبي عن السياسة و الانتخابات، فإن السلطة، على طريقة الأنظمة السابقة، تسابق الزمن لاستيلاد ” أطرزة” من المبادرات و التيارات و ” التكتلات”، من شتى الأخلاط و المقادير التي لا يجمع بين مكوناتها سوى الانصياع لإرادة السلطة و توجيهها و تنفيذ رغباتها. فقد اجتمع بعضهم إلى بعض عبر التحكم عن بعد. و كأسلافها، لم تشذ هذه السلطة، مع اقتراب كل استحقاق رئاسي،  عن التحريك الموسمي لهذه المحاشر و كأن حل الواقع السياسي المأزوم و الواقع الاقتصادي المتردي و الواقع الاجتماعي المتشظي يوجد في لملمة من النقائض  و الأشتات في سلة واحدة  تحت هذا العنوان أو ذاك.  إن أغرب ما في خطاب هذه الجموع ذات التركيبة المتنافرة  هو استدارتها للدفاع عن الأنظمة الفاسدة التي كانت سببا في أزمات البلاد و هجومها على الإديولوجيات؛ و كأن الأفكار الإديولوجية أو الرجال المتمسكون بهذه الأفكار كانوا مرة واحدة سببا في أزمات شعبنا،على أي صعيد. إن الذي أفلس خلال  أكثر من ثلاثة عقود هو الأنظمة و النخب القبلية و الشرائحية و الإثنية و المرتدون عن الأفكار الإديولوجية المتجحفلين حولها الذين أداروا الدولة خلال هذه الفترة المتطاولة. فلم تتمكن هذه النخب ، رغم ردتها عن كل ماضيها الإديولوجي،   أن تتحول إلى أداة لخدمة مشروع مجتمعي و لم تمتلك رؤية اقتصادية و لا تصورا سياسيا و لا هوية فكرية مميزة لما بعد استلام السلطة  مع معاداتها للإديولوجيا و لمن لم يتخل عنها. إن المحاولات البائسة لإقناع الشعب بأشكال و تشكيلات ترفض من أول “صرخة استهلال” لها انفصالها عن تربة الفساد و رموزه -الذين يحميهم رأس السلطة القائمة- إنما هو كالتبشير بسلمية الأفعى بعد تبديل جلدها. إنه الدوران في ذات الحلقة المفرغة و لن يحمل أملا لعامة الشعب  على أي نحو كما ليس له معنى للتخطي و التجاوز لأزمة السياسة و السياسيين. إننا-  و بالضد من هذه الاتجاهات الاحتفالية التي تسعى لتكريس الواقع السياسي المأزوم الذي تآكلت نخبته و انتهت صلاحية أساليبها بانتهاء سياقها التاريخي- نرى أن التاريخ قد أصدر حكمه بالموت على الرأسمالية و قيمها و آلياتها التنظيمية بما في ذلك الديموقراطية الليبرالية التي تحتضر في مهدها، بالمجتمعات الغربية. إن المستقبل بخلاف ذلك يبتسم للإديولوجيات التقدمية و خطاباتها الثورية التي قاومت قيم الغرب خلال العقود الماضية. فلم تمت الإديولوجيا التقدمية و إنما صمًت البروبوغندا الأمريكية آذان الشعوب عنها و شوهت صورتها  لتحل محلها الإديولوجيا الأمريكية الاستعمارية التسلطية ذات البعد الواحد المتمثلة في الديموقراطية المشبعة بقيم الغرب الاستعلائية و انحرافاته الخلقية و السلوكية. فقد حاصرت أمريكا ، مستقوية بالامبرياليات الغربية، تحت عنوان الديموقراطية،  الشعوب وأشعلت الحروب و غزت الدول  و مزقت المجتمعات بالفتن و نهبت الثروات و ابتزت الأنظمة… بينما لم تجلب هذه الديموقراطية الليبرالية الغربية للشعوب المقهورة غير تفشي الأخلاق المنحرفة  و تلويث ضمائر المواطنين و هجرة الشباب تائهين  عن أوطانهم  و نهب أموال البلاد و هدرها في الحملات الانتخابية ذات المضامين القبلية و الشرائحية و العنصرية  التي لم تطعم جائعا و لم تسق عطشانا و لم تداو مريضا … بل سدت الأفق و الأمل في وجه الشباب، و هم الفئة الأكثر فاعلية،  و فاقمت المديونيات على الدولة لأجيال قادمة و أبعدت الكفاءات الوطنية التي لا تقايض التوظيف و التعيين بالشرف و لا الوطنية  لصالح الغوغائيين و القبليين و النفعيين و المنافقين السياسيين… و لم تنتج في كل مرة إلا ممثلين برلمانيين أسوأ  ممن سبقوهم و نظاما حاكما أردأ من الذي قبله لتبقى هذه الأنظمة دوما و حتى السلطة القائمة اليوم  بلا حامل سياسي .  فكانت الحصيلة بالنسبة لشعبنا بعد أكثر من ثلاثين سنة من هذه العبثية السياسية كارثية بكل المقاييس و على جميع الصعد. إن هذا النظام الانتخابي المشوه يجب وضع نهاية له و استبداله بنظام انتخابي  نابع من قيمنا الإسلامية و خلفيتنا الحضارية و مستجيب  لحاجاتنا التنموية و مستوى الوعي السياسي و الثقافي لشعبنا   و يقطع الطريق أمام التلاعب بإرادة آلاف الأميين عبر شراء الذمم بالمال المسروق و الضغوط باستخدام العقليات البالية للزج بهم في عملية لا يفقهون فيها حقا و لا واجبا . إن نظاما انتخابيا قائما على  القوائم السياسية المستقلة و الأفكار الإديولوجية بمضامين وطنية و حضارية  ليكون التنافس تنافس أفكار و برامج حقيقية  و نضال و ليس تنافس أموال و  عقليات بدائية سيكون أقرب لحقائق مجتمعنا و أنفع في تطوير وعيه السياسي بالتراكم و التدرج . إنها كذلك مقاربة  تستجيب للتحولات الدولية  الممانعة للغرب و قيمه و نظمه و في ذات الوقت قادرة لأن تعيد الحيوية و المصداقية للمشهد السياسي الوطني الذي بات مقرفا للموريتانيين. إن الإديولوجيا عائدة بقوة من محبسها و لا يمكن لهذه السلطة و لا للتي ستأتي بعدها أن تقف في وجهها، لأنها عودة فكرة حان وقتها  و يفرضها سياقها الدولي القاهر   مهما استخدم النظام  من مجاديف و تيارات سابحة بعكس تيار التاريخ، و في ذات الوقت فإنه سياق قضى بموت الأحزاب و المفاهيم و الأساليب التي نشأت بقوة اتجاه التاريخ عقب انهيار المعسكر الشيوعي قبل ثلاثين سنة..  فالسياق الذي نحن فيه هو لصالح الائتلافات بين القوى الوطنية و القومية و التقدمية و الحداثية ذات المرجعيات الاديولوجية و الرصيد النضالي على أسس خطاباتها و شعاراتها و صيغ عملها التنظيمية، و ليس سياق إعادة أنتاج المفاهيم المميعة و الأساليب غير الجدية التي طبعت لعبة الديموقراطية الليبرالية- القبلية- الشرائحية خلال ثلاثة عقود . و إذا واصلت السلطة في تجاهل التغيرات العالمية و استمرت في التمسك بمفاهيم و أدوات و ميوعة و قيم نظم الرأسمالية المتداعية و الحيل البدائية، فإنها ستصطدم بقوة بواقع اتجاه تاريخي لا سبيل لمقاومته و لا راد له… و قد تجد نفسها، يوما، في واقع التغيير رغما عنها بأدوات عنيفة…

قيادة قطر موريتانيا.

نهاية يناير 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *