رسالة إلى أخ من الفلان
رسالة إلى أخ من الفلان
نقل رفيق أن صديقا له من الفلان الموريتانيين طلب منه ورقة تعريفية لحزب البعث العربي الاشتراكي، و لماذا البعث في موريتانيا؟.
ومع أن السؤال مشروع، إلا أنه ينم عن عادة سلبية و متفشية بين الموريتانيين إنها عادة عدم القراءة و التعويض عنها بسوابق الأفكار أو تبني مواقف خصيمة، دون أن يتكلف المرء عناء التحلي بالمسؤولية الموضوعية الناتجة عن قراءة فكر هذا الحزب، و الإطلاع على إيديولوجيته من مصادرها الأصلية.
فالبعث حزب قديم، وخاض معارك قاسية ضد الاستعمار في كل مكان من العالم ؛ودعم الشعوب الضعيفة و ناصر قضاياها العادلة.كما أنه أنجب قادة تاريخيين عظاما، وتخرجت من مدرسته الفكرية و النضالية طلائع تحررية في كل الأقطار العربية.و البعث ليس حزبا عنصريا خاصا بالعرب، أو حزبا فئويا يدافع عن مصالح فئة من الشعب دون فئات أخرى ؛ و البعث ليس حزبا مذهبيا ينافح عن مذهب على حساب مذاهب أخرى.و البعث ليس حزبا دينيا بمعنى أنه يتعصب لجزء من عقائد الشعب دون جزء ؛ و إنما هو المظلة العامة التي توفر المناخ الملائم لتعايش المذاهب و الطوائف و الأديان و الأثنيات داخل الأمة، في أمن و سلام.وهذه الصفة الشاملة التي لا يتمتع بها إلا حزب البعث في أمتنا، هي ما نطلق عليه هوية البعث و “بذرة خلوده ” رغم المحن القاسية التي مربها.”ولذلك فالبعثي يتربى على أنه حامل رسالة خالدة من أجل الإنسانية كلها و ليس من أجل العرب فقط و لذلك فنضاله يتجاوز عمر الأفراد..”.(يتواصل)
رسالة إلى أخ من الفلان..(2)
..والبعث، في إيديولوجيته، يرتكز على ثلاث مرتكزات أساسية ؛ أولها وحدة الأمة العربية. وهذه الوحدة ليست شيئا مصطنعا، بل هي استئناف لحقيقة قومية تاريخية حية قائمة، لم تتلاشا من تلقاء نفسها ؛ بل زالت بفعل يد التخريب وعقول التآمر. ولذلك، فهي ليست فاعلية مؤقتة، أو تكتيكا سياسيا، أو سعيا توسعيا.إنها ضرورة حضارية ودينا تاريخيا مستحقا في أجله على أجيال من أمة ساهمت بفاعلية في إغناء الحضارة البشرية والارتقاء بالفكر الإنساني، عبر رسالتها، الخالدة –الإسلام، أما المرتكز الثاني ؛ فهو الحرية. فالبعث – بوصفه حزبا ثوريا، رساليا وإنسانيا، آمن بالحرية واعتبرها حقيقة إنسانية غير مشروطة، مغروزة في جذر الكرامة الإنسانية،،التي يحرم امتهانها.
والحرية، عند البعث، في شقها القومي قسمان : قسم خارجي يتعلق بتحرير أكثر من ثلاثمائة مليون عربي من نير الاستعمار أو التبعية المهينة لمشاريعه المدمرة للأمة. والقسم الثاني داخلي، يتصل بالنضال لتحرير هذه الملايين من التخلف في العقليات، ومن الخنوع للأنظمة الرجعية، وممارساتها البائسة. والبعث ربط بين الحرية والاشتراكية والقومية،. والاشتراكية، هي ليست فحسب نهجا اقتصاديا، كما هو معروف، بل هي، في البعث، مغموسة في ذات جذر الكرامة الإنسانية ومشبعة بالمعاني الثورية.فالبعث لا يعمل على وضع الإنسان العربي يده على مقدرات أمته، وأن يتمتع بها ليتحرر من الجوع ومن كوابيس البؤس فقط ؛ وإنما أيضا ليستعيد هذا الإنسان إنسانيته المسلوبة منه بالجوع والبؤس ؛ فتنطلق طاقاته دون أغلال ولا قيود، وتتدفق مشاعره المغمورة تاريخيا بالحب نحو أفراد الإنسانية، في الأمم والشعوب الأخرى.
وهذا التفاعل بين الحقيقة القومية الإنسانية، وبين الحرية والاشتراكية هو الذي سد الفراغ القاتل في تجارب إنسانية أخرى فنت..(يتواصل)
رسالة إلى أخ من الفلان (3)
… والبعث – يا أخي – ليس عرقا سلاليا نقيا، مثلما يفتري المبطلون.فالقومية فى البعث، مثل العروبة، مفهوم حضاري، ثقافي تاريخي قائم على الامتزاج والاختمار الناتج عن آلاف السنين لعوامل الثقافة واللغة والاختلاط السلالي والجيرة والدين…والمعاناة والانجازات المشتركة عبر التاريخ. وفضلا عن هذا المعنى الحضاري الإنساني للقومية فى حزب البعث، فإن الاتجاه الأصيل فيه هو تميزه بتقدير الأقليات القومية في الوطن العربي و إحلالها موضع القلب منه، واعتباره لأي انتقاص بحقها هو انحراف عن خط الحزب القويم وذوقه السليم. إذ لم تعرف الساحة العربية حركة سياسية أو فكرية أعطت للأقليات القومية داخل حدود الأمة العربية ما أعطاه حزب البعث من اهتمام وقيمة لهذه الأقليات، بخلاف ما تنشره الأقلام المأجورة من الامبريالية الغربية، وما يسكبه المنافقون للأنظمة الاستبدادية والرجعية من افتراءات، وباستمرار، ليثبتوا فى أذهان أبناء هذه الأقليات وفى العامة من الشعب العربي أن حزب البعث يعادي الأقليات ويعمل علي تذويب هويتها وتصفية خصوصياتها الثقافية والقومية.إن الشواهد الفكرية للحزب والممارسة العملية تفند هذا الكذب المفضوح. فهاهو العراق، في ظل البعث، أعطى للأكراد حقوقهم الثقافية وأقر تميزهم القومي، وجسد هذا عمليا فى منطقة الحكم الذاتي، حيث توجد عوامل موضوعية فى منطقة كردستان،..وهذه هي إيديولوجية حزبنا منذ تأسيسه 1947 تصدح باحترام أقليات الأمة، وتبرهن على أن الحزب كان دوما فى أعلى مستويات الإدراك بوجود هذه الأقليات، وبإلزامية احترامها وتقديرها.غير أن هذه الافتراءات الظالمة – التى شاركت فيها وبأسف شديد نخب عربية مأجورة، ونخب أيضا من هذه الأقليات – عملت، كما هو مخطط لها، على بث الأحقاد وتشييد الحواجز النفسية بين الحزب وهذه الأقليات خدمة للعدو المشترك، ألا وهو الاستعمار الغربي عموما، ونحن لا ننكر أن يكون بعض ممن انتسبوا للحزب قد وقعوا، دون وعي أو بفهم منحرف، في ردود أفعال على نخب الأقليات المعادية لخط الحزب…فوقعوا بالتالى فى لعبة السياسة الحقيرة، وسهلوا، دون إدراك كاف، مهمة ودور وأغراض أعداء الحزب والأمة، بإعطاء ذريعة لتشويه حقيقة الحزب والتباس رسالته الإنسانية والتاريخية..(يتواصل)
رسالة إلى أخ من الفلان (4)
….وتواصلا مع أخينا الفلاني دائما، وتحديدا عن سؤاله عن لماذا حزب البعث في موريتانيا.
..نجيب على هذا السؤال على أنه، في الواقع، نكران ضمني للهوية العربية لموريتانيا..مع العلم أن هذه الهوية لا تحتاج لبراهين، دون أن يكون في ذلك غمط أو جحود لهويات فرعية قومية لأقليات فلانية وزنجية في موريتانيا، مثلما عليه الحال بالنسبة للأقليات عموما في الوطن العربي. فموريتانيا بأغلبيتها ولغتها العربية، وبتاريخها الثقافي والحضاري وتواصلها الجغرافي الطبيعي بخريطة هذا الوطن الكبير ؛ كل ذلك يجعلها دولة عربية ذات أقليات غير عربية.وإذا اتفقنا على هذه الحقيقة الموضوعية العيانية الملموسة، فإن موريتانيا تكون جزءا من الأمة العربية. وبناء على هذا الأساس القومي، وعلى أساس تقرير هذا الواقع التاريخي تبقى الوحدة العربية حقيقة موضوعية تؤكدها وحدة اللغة والتاريخ وموروث العادات والتقاليد والثقافة والأرض والدين والدور الحضاري والأحداث الكبرى والميل الفطري نحو التوحد لدى الإنسان على هذه الخريطة العريضة، والمآثر والآداب والأذواق و النظرة إلى الفن والجمال…والكون والمجتمع والإنسان.
وبما أن هذه الوحدة كانت قائمة تاريخيا، وتلاشت على أيدي قوى الاستعمار العثماني أولا، ثم الغربي لاحقا، فإنه من الضروري قيام إطار قومي ثوري عام يعمل على التثقيف حول المسألة القومية وضرورة التوعية الجماهيرية والنخبوية حيالها. ولكي ينتقل هذا الوعي القومي بالوحدة من حيز الفكر إلى ميدان الممارسة النضالية اليومية، استخلصت الفلسفة التنظيمية لحزب البعث لبناء تنظيم قومي ثوري متجاوز لواقع القطرية التجزيئي للأمة، ليتولى هذا التنظيم القومي تجسيد هذه الوحدة في الفكر والتنظيم باتجاه تطوير المبادئ والمنطلقات النظرية التي هي المحتوى الثوري الهادف إلى استيعاب واع لمطلب الوحدة ضمن صيغ فكرية وتنظيمية موحدة تجعل المناضلين على ذات المستوى الفكري والتنظيمي من الكفاءة لمواجهة التحديات والضرورات التاريخية التي تفرضها القوى الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية القطرية على امتداد الوطن العربي.
من هذه الفلسفة جاء وجود البعث في موريتانيا ( يتواصل)
رسالة إلى أخ من الفلان (5)
عرفت إذن، لماذا يوجد حزب البعث في موريتانيا، وعرفت أن ذلك بناء على فلسفة تنظيمية قائمة على إيديولوجية عربية وحدوية نقيضة لواقع التجزئة والتفرقة القطرية .
فالتنظيم الحزبي وحدوي قومي عابر لحدود التجزئة القطرية، وقيادته قومية بوصفها النموذج العملي الوحدوي المنشود، بعد توحيد الأمة بجميع أقطارها..غير أنه، مثلما مر بنا في حلقات سابقة من الرسالة، لا أصل للعرق ولا الاثنية في إيديولوجية البعث. فالمفهوم القومي فيه مفهوم حضاري ثقافي تاريخي. ولذلك، ليس الانتساب لحزب البعث حصريا على العربي بالمعنى السلالي، وإنما قد ينتسب إليه كل من وجد على خريطة الوطن العربي وآمن بأهداف الحزب. فالفلاني مثل الكردي والتركماني.، بإمكانهم الانتساب إلى حزب البعث، بل والتدرج في سلمه التنظيمي والعملاني في أعلى درجاته.فالرفيق الشهيد طه ياسين رمضان، مثلا، وقع في سجون الاحتلال الأمريكي، وهو عضو قيادة قومية، مع أنه كردي في أصله العرقي. ومن هنا، تمتع حزب البعث بالكفاءة علي المستوى النظري والإيديولوجي، وبالكفاءة على المستوى التنظيمي فهو الحاضنة التي استوعبت الإنسان العربي بغض النظر عن انتمائه الديني، والمذهبي وغير ذلك من الهويات الفرعية، ضمن مكونات الأمة، وهو الوعاء التنظيمي الشامل، الذي يتواصل بنيويا وتنظيميا، على امتداد الوطن العربي ؛ دون اعتبار لواقع القطرية،الذي يحاربه الحزب تبعا لشعاره الذهبي في الوحدة والحرية والاشتراكية (يتواصل).
رسالة إلى أخ من الفلان (6)
… لعلي يا “أخي” وفقت في توضيح صورة حزب البعث لك خلال الرسائل السابقة، ولعلي أكون مغمورا بالسعادة عندما تدرك أن هذا الحزب التحرري التقدمي والإنساني هو حركة قومية عربية إنسانية يتوجه إلى العرب كافة على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وعقائدهم ؛ غير أن الإسلام في فكر حزب البعث له خصوصيته ؛ فهو فضلا عن كونه عقيدة دينية، إلا أن له جانبا قوميا..فالإسلام للعربي هو دين عقيدة، وقومية وثقافة وحضارة، وذلك ما جعل للإسلام هذه المكانة العظيمة في تكوين التاريخ العربي وفرادة العبقرية عند العرب ؛ فبينما الإسلام للشعوب والأمم الأخرى عقيدة دينية صرفة، بمعنى ليس أساس شخصيتها، ولا تجربة ثورية في حياتها، فهو للعربي – بمن فيهم غير المسلمين – في عمقه وتجربته واتساع نطاقه الصورة الصادقة والحية لحياة العرب في فطرتهم وبيئتهم ونقاوة سرائرهم، مثلما هو حال لوحة سمائهم وصحرائهم المفتوحة.
من هنا، كان الإسلام في واقعه عربي، وفي رسالته ومبادئه وتعاليمه إنساني عالمي. لذلك، يقول الأستاذ المرحوم المؤسس أحمد ميشلعفلق : ((العرب هم الأمة الوحيدة التي اقترنت يقظتهم القومية برسالة دينية. لذلك العرب لم يتوسعوا بغية التوسع، ولا حكموا البلاد استنادا إلى حاجة اقتصادية مجردة أو ذريعة عنصرية، أو شهوة للسيطرة والاستعباد، بل ليؤدوا واجبا دينيا كله حق وهداية ورحمة وعدل)) ((فالإسلام هو روح القومية العربية، والإسلام دين عالمي وإنساني تؤمن به قوميات أخرى. إن القومية العربية ليست معادية لهذه القوميات التي يجمعها الإسلام مع العرب، بل بالعكس إن قوة العرب هي قوة للمسلمين جميعا، بل لا يمكن تصور إسلام قوي بدون عرب أقوياء. فالعرب هم الذين عليهم حمل أمانة الرسالة، وطبيعي أن العرب لا يستطيعون أداء هذا الواجب إلا إذا كانوا أمة قوية فأول واجب تفرضه إنسانية وعالمية الإسلام هو أن يكون العرب أقوياء، سادة في بلادهم. فالعلاقة بين القومية العربية والشعوب الإسلامية غير العربية علاقة تكامل وليست علاقة تصادم)).
فلا مجال يا – أخي – مطلقا للخوف من العرب، إذا هم استعادوا دلالتهم التاريخية وقيمهم المعنوية وتجربتهم الإنسانية وريادتهم الحضارية.(يتواصل)
رسالة إلى أخ من الفلان (7)
….البعث ليس حزبا بالمعنى التقليدي، بل هو بالعكس حركة روحية تعمل على تنقية النفوس وتصفيتها من أوساخ المادة ؛ ومن هنا هذه العلاقة الوثيقة بين البعث والدين بصورة عامة والإسلام بصورة خاصة. لذلك البعثيون يطلقون على حركتهم (الانقلابية)، أي ذلك الجهاد الكبير الذي يمارسه البعثيون على نفوسهم ليتخلصوا من رواسب المجتمع، المؤذية، وليسموا بأنفسهم وأخلاقهم إلى درجات عالية من المثالية والتعالي على التشوهات التي علقت بها بفعل عوامل التربية المنحرفة في الأسرة والمجتمع المتخلف.هذا الجهاد أو الانقلاب الذاتي لا يتحمله |إلا جيل عربي جديد، يتمثل روح الأمة قبل سقوطها في وهدة الانحطاط الحضاري، ويمثل الأمة في صورة مستقبلها المنشود، الذي تستعيد فيه حقيقتها الإنسانية المغيبة بأوضاع الاستعمار وعمالة الرجعيات الدينية ومفاعيل العقليات الاجتماعية البائدة، التي قادت إلى الفساد وكل ما هو سلبي وهدام.إذن، البعث حزب يعمل على توحيد العرب من التجزئة التي خلقها الاستعمار، كما أنه يعمل على استعادة العرب للثقة بأنفسهم، عبر حركة ثورية تمزج بين الروح والعلم، وتقطع مع سلبيات الماضي وفي نفس الوقت تعيد تأهيل الماضي المجيد للأمة،الذي حصره الأستاذ المؤسس في العقود الأولى للإسلام -، لأن النفس العربية حققت فيه ذاتها (تحقيقا كاملا)، وتحررت فيه الشخصية العربية من قيود الخرافة نحو العقل والإيمان والبطولة والانجازات العظيمة على صعيد المعنى والمبنى. بمعنى أنه ماض تحققت فيه الفكرة العربية المقرونة بأعظم رسالة في تاريخ البشرية، هي رسالة الإسلام التي كانت أبلغ إفصاح عن عبقرية الأمة العربية وعظيم شأنها بتحملها هذه الأمانة ونشرها بين أمم الأرض، على أسس المحبة والرحمة والإنسانية الشاملة. (يتواصل)
رسالة إلى أخ من الفلان (8)
….. فحزب هذه رسالته ومبادئه لا يخشى عليه أن يسقط في نقيصة العنصرية المقيتة أو يستبد به النزوع إلي الاستكبار والتسلط وامتهان الآخرين، مثلما وقعت فيه الحضارة الغربية التي سحقت الإنسانية خارج حدودها القومية. كما أن أمة تمر بأوضاع _ كأوضاع العرب – لا يمكن أن تفكر في اضطهاد الآخرين، و خصوصا إذا كان هذا الآخر مسالما و يقاسمها عوامل المعاناة أولا،و الجيرة و الحضارة و التاريخ، كما هو الحال في العلاقة بين العرب و الأفارقة السود. إن أمتنا – يا أخي- تمر بأخطر مراحل التشويه و الانحراف في وعيها القومي ؛ و تمكن الفساد و انتشاره على نحو مخيف بين أوساطها ؛ الأمر الذي بات من اللازم فيه العمل على تبديل هذه الأوضاع و مقاومة هذا الفساد.. ولكن هذا الوعي بهذه الحقيقة الأليمة ” لا يتبلور بشكل واضح إلا عند أقلية من أبناء هذا الشعب تدرك واقع أمتها و تصمم على تبديله و تتقدم الصفوف للنضال في سبيل قلب هذه الأوضاع و تغييرها و تتجه إلى الشعب لتنقل إليه و عيها، عاملة على تنبيهه و تثقيفه و توضيح واقعه له، جاهدة لتسير بالشعب في طريق النضال المنظم “.
إذن، عمل حزبنا – يا أخي- عمل حضاري، تاريخي ينصب على الوقوف في وجه الفساد و مصارعة الرجعية و الاستعمار و مصالحهما الكثيرة و الكبيرة على حساب جماهير الأمة العريضة من الذين قص الظلم ألسنتهم، و شل الاضطهاد الحركة فيهم.(و بهذا العمل تتسع و تنموهذه الاقلية المدركة لواقع أمتها فتصل بالنتيجة إلى تبديل حياة الشعب بكاملها و تغير أوضاع البلاد كلها، و تصل بالتالي إلى خلق حياة جديدة لأمتنا). و الشيء الذي نريد الإلحاح عليه باستمرار، هو أن حزبنا لا يعادي إلا الاستعمار و التخلف و العقليات البائدة و الظلم الاجتماعي، و أن سلاحه في ذلك أقلية واعية تقود الحركة الشعبية الواسعة. (يتواصل)
رسالة إلى أخ من الفلان (9)
….و لحجم الدعاية و الأكاذيب التي يتعرض لها حزب البعث، فإن إخواننا من الفلان و الزنوج لم يعودوا يفحصون ما يروج لهم من كذب، بدليل أنهم لا يرجعون في مواقفهم السلبية إزاء البعث إلى أدبيات هذا الحزب أو ما يصدر عن شخصياته الرمزية و مرجعياته الفكرية و التاريخية، سواء في القطر الموريتاني او حتى في باقي الأقطار العربية.و هنا، من المفيد أن نسوق لكم مثالا على هذه التلقائية في تلقف الأكاذيب على حزب البعث دون التروي، مما يتسبب في الوقوع في الأحكام المسبقة و إصابة مناضلين حضاريين -البعثيين- بجاهلة.فالمثال يكمن في مسلمة قارة في أذهان كثير من الإخوة الفلان و الزنوج أن البعثيين يعادون اللغات الزنجية.و هذا كذب و فتراء.فالبعث ليس عدوا لهذه اللغات ولا يقف أبدا في وجه كتابتها و تطويرها بأي حرف يختاره إخوتنا.ولكن من حق إخوتنا الزنوج علينا، كإخوة في الدين و وشركاء في الوطن، ومن واجبنا اتجاههم أن نذكرهم بحقائق التاريخ : لقد حاول شاه إيران تصفية المفردات العربية من اللغة الفارسية في مسعى منه لسلخ شعوب إيران من عمقها الحضاري المتمثل في الإسلام و العرب و لغتهم التي نزل بها القرآن العظيم، حتى يتسنى له – بحسب فهمه السقيم و العنصري – إعادة بناء الحضارة الفارسية التي بادت على أيدي المسلمين من العرب، لكنه فشل في ذلك لأن أكثر المفردات الحيوية في اللغة الفارسية هي مفردات مستعارة من اللغة العربية. و قبله، أقدم زعيم تركيا الطورانية، أتاتورك، على تغيير كتابة اللغة التركية من الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني، وكان فشله أعظم، لأنه نجح في خلق نخبة علمانية متشبعة بثقافة غربية مادية خالصة، ولكنها منقطعة الجذور عن تاريخها و عن عمقها الحضاري.فأغلبية الشعب التركي المسلمة عزلت هذه النخبة و حاصرتها في حدود ضيقة.ذلك أن اللغة ليست، أداة للتعبير فحسب، و إنما هي خزانة التاريخ و بوابة المنجزات، و هي قوام الفكر و ما يصدر عنه من قيم، و أي تساهل بشأنها لا جرم أن يقود إلى الانفصام و الارتباك و الانحطاط. (يتواصل)
رسالة إلى أخ من الفلان (10)
… و هكذا، لا مناص من إعادة تقييم المسؤوليات و المواقف التي جرت إلى هذه الحقبة السوداء من التدابر و التنافي بين مكونات شعبنا ؛التي تعايشت أحقابا طويلة في هذه الرقعة من العالم، وحملت، في القلوب قبل الألسن، رسالة المحبة و التآخي.إن تصويب المواقف و تقريب و جهات النظر هما من أولوية الأولويات، و هما من مسؤولية النخب الوطنية ؛ خصوصا في مثل هذه الظروف الكئيبة التي يعيش فيها العالم أوضاعا مضطربة، و تنهار فيها منظومات القيم انهيارا مريعا.فمن حولنا – يا أخي – تتداعى شعوب و مجتمعات إلى منزلقات سياسية و هاويات إقليمية جاءت على الأخضر و اليابس ؛ وبات التحكم و السيطرة على تداعيات ذلك و إفرازاته على المشاهد السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية في هذه الدول حلما بعيد المنال على نخبها، بعدما تسببت تشنجاتها السياسية و تغليب حساباتها الضيقة في هذه الكوارث ؛ و أصبحت هذه النخب تعمل الآن في الوقت الضائع.
لقد لعبت النخب في هذه الشعوب المضطربة بالأوطان و حولت مصائرها إلى كعكة سياسية يتنافس عليها المتنافسون..و لكن ضاعت الأوطان، و في ضياعها ضاعت كل المصالح. إننا – في حزب البعث العربي الاشتراكي – على استعداد تام لتمحيص و تنقية كل المواقف التي أساءت عن قصد أو غير قصد إلى أي مكون من مكونات شعبنا، و في مقدمة ذلك الأبناء و الإخوة و الأصدقاء من الزنوج الموريتانيين، الذين نكن لهم كل المحبة، و نعترف لهم بالدور العظيم في نشر الإسلام و لغته – اللغة العربية – في إفريقيا جنوب الصحراء. إن من الأسبقية عندنا هو نشر ثقافة الحوار و التنافس المسؤول في البرامج الوطنية الجامعة، وليس إعادة الشحن للعواطف و اللعب بالنار، التي تحرق كل شيء إذا ما نشبت، و ليس بعدها منتصر ولا مهزوم.
إن المسؤولية الكبرى، كما نراها و نعمل من اجل ذلك، هي في عقلنه المواقف و توفير مستلزمات الابتعاد عن التصرفات و المواقف المضرة بالسلم الأهلي ؛ و التي تحمل الوطن كله على أكف العفاريت، و تدخله في دوامة الاضطراب الاجتماعي. إن من يحمل فكر البعث بإخلاص و يفهمه حق فهمه لن يكون إلا عونا في هذا المقصد السديد. يتواصل
رسالة إلى أخ من الفلان (11)
… ذلك هو السبيل الآمن والمقصد السديد اللذان يتعين علينا، جميعا، اتخاذهما مسلمتين لا فكاك منهما، لإحداث الفرق بين جيلنا في التفكير وفي التاريخ، وبين حقبتنا وحقب من سبقنا. إنها ضرورة وجودية أيضا. فالظروف التي يمر بها العالم من حولنا وعلى تخوم وطننا، تفرض علينا إعادة النظر في أولويات القضايا الأساسية، في ضوء تبدل المعطيات الدولية والإقليمية ؛ كما تفرض العمل يدا بيد لإنتاج أسلوب عمل جديد تبعا لجغرافيا تفكير متمتع بالوعي بخطورة ما يحاك ضد وجودنا، ويقطع مع أساليب حقب معلومة من تاريخنا السياسي والاجتماعي، وينشد- بإرادة واضحة ونية خالصة- تخليص الوعي الوطني مما علق به من شائنات الممارسات السياسية التي ارتكبتها النخب الوطنية في حق بعضها بعضا،وعالجت أخطاءها أحيانا بمنطق منحرف أو بإطباق صمت كثيف عليها. ذلك، هو المسألة الأساسية التي تستحق من نخب اليوم إعمال العقل، لأنها بحق جديرة بالتفكير. إن مشهد دول – كانت بالأمس آمنة مطمئنة في أوطانها وأصبحت اليوم أشتاتا منثورة على خراب ما شيدته سواعد أبنائها في ظروف قاسية – يكشف الحاجة الماسة إلى الاعتبار مما وقع، ويفتح دروب التفكير على ضرورة القطيعة مع صراعات عدمية، غريبة وأليمة، قادت بنتائجها إلى ارتكاب الإثم العظيم ضد الوطن الواحد والتاريخ المشترك والدين الجامع، وأصابت الإنسان الموريتاني في كيانه. إن تفكيرا في هذا الاتجاه هو ما يصنع الانعطاف من صيغة التقابل السلبي بين مكونات شعبنا إلى صيغة التفاعل الإنساني. إنه الأفق الإيجابي الذي نتطلع لخلقه والتحرك في رحابه على الدوام لنجنب بلدنا مصائر تلك الشعوب، التي انفلقت كالصواعق!!إنها رغبتنا في التعايش السلمي باحترام، فذلك هو قاعدة التفكير وقمته، بالنسبة إلينا!..(يتواصل
رسالة إلى أخ من الفلان (12 والأخيرة )
أخي –عبد الله– ها نحن نختم هذه الرسائل التي وجهناها إلى النخبة الزنجية والفلانية من الموريتانيين، عبر شخصكم الكريم، كأحد رموز هذه النخبة، وكشخصية وطنية مثقفة ومنفتحة، عقلانية ومتشبعة بقيم الإسلام في التسامح والمحبة. ولهذه الفضائل، اخترنا أن تكونوا جسرا لهذا التواصل، مع أن الخطاب موجه لكل المكونات الوطنية، عموما.تلك (الرسائل – الوثيقة) التي كانت في ظاهرها تمثل أجوبة على سؤال من أحد الإخوة من الفلان الموريتانيين عن لماذا حزب البعث في موريتانيا؟.. ولكنها على مستوى الهدف كانت أعمق وأشمل كثيرا من ذلك. فقد تألفت من قسمين: قسم تاريخي، عرضنا فيه لتاريخ البعث وأسسه الإيديولوجية وفلسفته التنظيمية، وقسم آخر عرضنا فيه بإيجاز تحليلا للوضعيات السياسية وما اكتنفها من أخطاء كانت سببا في تسمم الأجواء السائدة يومئذ، وما نتج عن ذلك من فراغ بين مكونات شعبنا. كما تعرضنا إلى ذلك التدابر السياسي بين نخبنا، وما إذا كان في الإمكان الإفادة من دروسه لوضع الوحدة الوطنية وضعا صحيحا ومصححا لما ساد من صراع عبثي عقيم. لقد أكدنا، كما تخلل كل الرسائل، أن حزب البعث ليس حزبا سلاليا عرقيا، وإنما هو تشكل حضاري وثقافي وتاريخي قائم على الامتزاج والاختمار الناتج عن آلاف السنين لعوامل الثقافة واللغة والاختلاط السلالي والجيرة والدين والمعاناة والانجازات المشتركة عبر التاريخ. وأوضحنا أن الإسلام له، في البعث، خصوصية عن الأديان الأخرى ؛ فهو عقيدة دينية للمؤمنين به من العرب وغير العرب، ولكنه للعربي، مسلما أو غير مسلم، مرتكز قومي وإنساني. وقلنا إن حزبا هذه رسالته ومبادئه لا يخشى عليه من السقوط في رذيلة العنصرية، أو النزوع إلى امتهان كرامة الآخرين والدوس على شخصيتهم القومية، وخصوصا أولئك الذين شاركوا العرب في بناء الحضارة العربية –الإسلامية، مثل الزنوج الأفارقة. وها نحن نختم بالقول إنما يصنع عظمة أية لحظة تاريخية هو مضمونها، وأعظم ما في مضمون لحظتنا هو أن نؤسس لبناء وحدة وطنية رصينة ومستقبل وطني مختلف عما عاشه شعبنا فيما بعد الاستعمار الفرنسي. وأيا يؤول الأمر، يبقى هذا العمل شاهدا على احترام هذه المكونات وتثمين تميزها القومي، ودليلا على بطلان أكاذيب الخصوم على البعث والبعثيين. فهل إلى رد من سبيل؟